يابي! هو
كالفأر ولكنه أكبر
عندما كنت في الجامعة
كنت أقيم مع عدد من الأطباء السوريين الذين يقومون بالتحضير للدراسات العليا والتخصص. وقد حدث معي أنني مرضت في رمضان واضطررت أن أفطر
، وقد أعطوني لائحة طويلة من الأدوية لمساعدتي على التخلص من المرض. وصدف أن أتانا شاب سوري لم أعد أذكر اسمه اليوم
وأعتقد أنه كان خريج كلية الآداب أو شي من هذا القبيل، فرآني على مائدة الافطار ولا أقوى على رفع كأس الماء
وأمامي كل هذه الأدوية. فقال لي :
- ليش كل هذه الأدوية؟
قلتُ: الأخوة الدكاترة
وصفولي ياهم الله يجزيهم الخير؟ (كل "الأخوة
الدكاترة" جالسين حول مائدة الأفطار معنا)
فذهب إلى حقيبته
وأحضر حبة دواء واحدة وقال وبالحرف الواحد : "خوذ هذه وانسى كل هذا العلاك الفاضي."
مشيرا إلى كوم الأدوية أمامي على الطاولة.
نظرت لأصدقائي الأطباء
وأنا مُحرج أن أرد عليه ومُحرج منهم على هذا التعدي على معرفتهم وعلى اختصاصهم من هذا
السيد. فتبادلنا جميعا بسمة ذات معنى ؛ ولله
الحمد تحسنت على نصائحهم وأدويتهم.
هذه الحادثة تعود
إلى ذاكرتي كلما جلست مع الأخوة الأطباء في مؤسسات الشأن العام ويتم الكلام على الأمور
التنظيمية المتعلقة بالاجتماع والاقتصاد والسياسة وما شابهها. وأنا لا أقول أن يترك الأخوة الكلام بالسياسة، ولكن
هناك فرق بين الكلام بالسياسة ـ وهذا حق كل شخص بل أشجع عليه ـ وبين التقرير والتنظيم
والعمل المؤسساتي العام الأهلي والحكومي.
فكثير من
الأمور لا تتعالج بحسن النية مهما صفت هذه النية.
والانتقال من اختصاص لا يعني نزع "المريول" الأبيض ولبس ربطة
العنق، بل هناك آليات وطريقة تفكير كاملة عليها أن تتغير. فحتى الشخص الذي لديه معمل بخمسين موظف لا يعني
أنه قادر على معالجة الأمر العام بنفس الطريقة،
فالأمر العام آلياته تختلف تماما. ونحن
هنا لا ننهاه عن التعرض للشأن العام ولكن عليه أن يفهم حدود فعله وأن يبحث عمن يقويه
على الفعل بالوسائل الصحيحة. وأعتقد أن
ثقافتنا أخطر ما يهددنا فيها بهذا الشأن هو الشعور بعدم الحاجة للآخر، فمعايير النجاح فيها المال، فالويل لك أن تحاول
انشاء حوار تحاول أن ترشد من جمع مالا فعدده. فبرأيه أن نجاحه يخوله أن ينجح في كل
المجالات الأخرى. والراشد منهم من تراه
أدرك ذلك فأحاط نفسه بالناجحين في اختصاصاتهم ومن يستطيوا أن ينقلوا أهدافه إلى
واقع قائم.
ونذكر هنا قصة
الوزير المسجون مع ولده الصغير الذي لم يعرف أي شي خارج السجن. فكان يروي له حكايا ملك الغابة وقوته، فيسأله الطفل: ما هو الأسد فيقول الأب أنه
حيوان كبير جدا له رأس واربعة أرجل وأذنين وعينين ووبر. فيسأله الطفل: معناها هو كالفأر ولكنه أكبر.
فعلينا أن لا
ننظر لإدارة الشأن العام كما ينظر هذا الطفل للأسد. فمن هو فالح ومبدع في غرفة
العمليات لا يعني ضرورة أنه يستطيع أن يدير عشر غرف عمليات بسبب خبرته، ومن هو جيد
في تصميم الجسور لا يُلزِم أنه سينجح في إدارة المواصلات. ومن هو ناجح في المحاسبة
لا يعني أنه سيفلح كوزير مالية. ومن هو جيد في الاقتصاد المعياري قد لا يتمكن من
إدارة الاقتصاد. قد تكون كل هذه الشروط
ضرورية للنجاح في الشأن العام، ولكن هذه
وحدها لا تكفي. فإدارة البلاد ليست كإدارة
معمل أو مشفى بل على حجم أكبر كما أن الأسد ليس كالفأر ولكن على حجم أكبر.
No comments:
Post a Comment