تحريم تدخل السلطة في الحراك الفكري


تحريم تدخل السلطة في الحراك الفكري
كتبت هذا المقال في تموز 2000 وقد قيل لي أن "المسلم المعاصر" نشرته ولكن لا أعرف متى.  وقد كتبت عدة مقالات تفرعت عن هذه الفكرة نشر بعضها في "القدس العربي" تحت عناوين مختلفة لا أجدها اليوم.  وأعتقد أن أفكار هذا المقال حول السلطة والحرية الفكري مناسبة أن تكون جزء من الحل في الثورة السورية وإضافتها "لـ"المبادرة الجهادية".


شيكاغو 25 تشرين الأول 2014.  




كلما كتب مؤلف أو نشرت قصيدة أو طبعت رواية سال لعاب اقلام المفكرين بين مؤيد ومعارض، وتبارى المتبارون ينعون على الأمة جمودها أو تفككها، وجلهم سواء الميال منهم للقبول أو المعارض له لا يرى امكانية حوار لا علاقة للدولة ممثلة بالحكومة فيه. والحكومة بداية كممثل لسلطة الأمة تجد نفسها ضحية لوضع لاتحسد عليه؛ إذ تدعى لحل خلاف ماكان أصلا مطروحا عليها، ولاتخاذ موقف يتجاوز صلاحياتها الأصلية. ومن هذه الرؤية يقدم هذا المقال استقراءا لنتائج محتملة لآليات الخلاف الفكري الدائر في كثير من الاوساط العربية حول حدود  الممكن وغير الممكن في الانتاج الثقافي العربي. وهذه الآليات متبعة من قبل المفكرين إسلاميين كانوا أم غير أسلاميين، فدراسة هذه الآليات ظاهرة مثيرة وذات آثار بعيدة على الحركة الفكرية تتجاوز الآثار اللحظية للنقاش المطروح للتحوار بين المفكرين. 
يستثني هذا المقال عرض موقف الدولة كفاعل بداية إلا بما هو ضروري لخدمة الغرض الأصلي للمقال.  ويتجنب الحديث عن آليات الحوار في مجال المسموح وغير المسموح أو في مجال تعريف الإبداع الفكري، أما النقطة الأولى فأنها تتعارض منهجيا مع هدف هذا المقال، أما الثانية لأنها تتجنب الحديث عن مصطلح نسبي وهو "الإبداع" أذ أنه يستلزم الخصوصية على حين يثير مصطلح الانتاج شمولية أكبر.
إن العامل المشترك هنا لمواقف المفكرين من انتاج فكري معين حين يثير هذا الإنتاج جدلا هو الهرولة إلى احضان السلطة سواء ممثلة بالسلطة التنفيذية (الحكومة) أو القضائية. وهذا السعي إلى السلطة لا يقتصر على الإسلاميين فحسب بل نستطيع أن نرى غيرهم في كثير من المواقف المشابهة. فمعارضوا الإنتاج الفكري موضع السؤال يسعون بكل طاقاتهم لأن تتدخل السلطة وتمنعه، ويتسلحون لذلك بكل هموم الحفاظ على التاريخ أو العقيدة أو مستقبل الأمة وتقدمها معلنين أنفسهم أوصياء على كل هذه الهموم. أما المؤيدون لهذا الإنتاج الفكري فباسم وصايتهم على كل هموم الأمة هذه  يطالبون الدولة بحماية هذا الإنتاج وتشجيعه بكل الوسائل.  وتسارع السلطة اتخاذ موقف معين فيكثر السخطون من جميع الأطراف، فالذين غُلبوا على أمرهم بتدخل السلطة أدركوا أن هناك لاعبا حاسما في الحركة الفكرية لابد من كسبه في أي معركة قادمة،  وهذا العامل الجديد سيضيف عبءا ثقيلا على أولويات إنتاجهم الفكري إلى أن يحين موعد النقاش القادم حيث أملهم أن يتحولوا إلى الطرف الذي تتبنى السلطة موقفه، عندها سينطبق عليهم نقاط التحليل القادمة في الفقرة التالية.
فالذين أتى تدخل الدولة تلبية لتوجهاتهم يجدون أن تدخلها لن يكون بالدرجة التي يطالبون بها. فهم يتناسون أن السلطة كتنظيم اجتماعي له آلياته و قدراته الخاصة به التي يجب أن تحترم وأن تقدر حق قدرها، ويجب الإدراك أن تدخل السلطة سيكون بالحجم الذي تفرضه آلياتها الذاتية وبالكيفية التي تتفق مع خاصياتها.  فالسلطة معضية متكاملة لا يمكن استعمالها بجرعات وكميات محددة تبعا لرغبات هذا الفريق أو ذك. وعندما تدعى للتدخل في مجال لا بد لها من اتباع وسائلها الذاتية وطرق تعاملها الخاصة بها. وقد لا يكون للسلطة رغبة في التدخل بداية ولكنها تستجيب لدعوات الفرقاء بدرجات متفاوتة، وما تلبث ألا قليلا حتى تستطيب حلاوة الأمر، ,إذا بتدخلها يطال أولئك الذين دعوها للتدخل، فهؤلاء يتناسون أنهم باستطاعتهم دعوة الدب للعشاء ولكنهم لايستطيعون تحديد ما سيتعشاه إذا حضر. 
وأبعد من هذا، فمع المجال الجديد الذي فُتح للسلطة كتنظيم إجتماعي،  سرعان ما يكتشف أفرادا من هذا التنظيم سطوة الموقف الجديد وآثاره الإقتصادية والإجتماعية على مصالحهم، فيتحولون به عن غرضه الأصلي، وهكذا تتحول نقطة الخلاف الفكري أصلا إلى مجال جديد لتعزيز مصالح اقتصادية واجتماعية لفئاة قليلة لا علاقة لها أصلا بالأنتاج الفكري أو بمعارضته. وفي كل مرة ينتهي الجدال الفكري الذي تحول إلى صراع إلىالمآل نفسه؛ إذ يجد المتحاورون أن مجال المبارزة والنقاش قد صغر وضاق بدعوتهم لطرف هو ليس أصلا طرفا وما كان له أن يكون طرفا بنقاشهم هذا. 
فالتذكير هنا ضروري أن الدولة ممثلة بالسطة تحمل في تصرفها وأفعالها دوما صفة "التسلط" أو "القهر". وهذه الصفة لاتقتصر على سلوكيات الدولة الديكتاتورية، بل هي عامة لكل صيغ الحكم حتى الديمقراطية منها.  فالسلطة تحتاج وتمارس هذا القمع كلما طبقت قانونا ما من مخالفة لقانون المرور إلى تطبيق لحكم الإعدام على المجرمين.  وهذه الصفة ذاتية في تصرفات السلطة لا غنى عنها في ممارستها لأمور الحكم والسياسة. 
إن آلية معالجة الخلافات حول قضايا الإنتاج الفكري مهمة في أنها تعكس مواقف طرفي النزاع من الأمة ككل ومن الإنسان العادي الوسط في هذه الأمة؛  فهي تعكس رغبة قمعية شديدة كامنة في كلا الطرفين من المثقفين.  فإذا أدركنا أن صفة القهر جزء من طبيعة السلطة في ممارساتها، فإن المفكر حين يدعوها للتدخل في قضية ما فإنه يستجلب هذه الصفة بالذات فيها لتخدم أغراضه، وهذا يعكس رغبة قمعية كامنة عند المفكر سواء كان إسلاميا أم غير إسلامي.  بل أن قمع المفكر يكبر على قمع السلطة؛ فقمع السلطة هو قمع ممارسة ونتيجة على حين يكون قمع المفكر قمعا ذاتيا وجوهريا.  
و المفكرون رافضهم وراضيهم في دعوتهم لتدخل السلطة لا ينظرون إلى المجتمع ككائن راشد يملك القدرة على التمييز بين الغث والسمين وبين ما هو نافع وما هو ضار، بل يتحرك المفكرون في قضايا كهذه من مفهوم الوصاية على المجتمع كالوصاية على المراهق الطائش،  وهم في طلبهم لتدخل الدولة يعلنون ضمنيا عن عجز وسائل اتصالاتهم عن التفاهم مع هذا "المسكين"، فهم وبأقنية تفعيلهم الخاصة ووسائل اتصالهم بالمجتمع باتت عاجزة عن تحقيق مرادهم وإن كان ظاهرا هو "إنقاذ المجتمع مما هو فيه من ضلالة أو انحراف".  فإذا كان دين الأمة قد رق إلى درجة الخشية عليه من رواية أو قصيدة فإن منعها من قبل السلطة لن ينقذ هذه الأمة،  وإذا مات الإبداع في أمة نتيجة تهجمات على بعض انتاجها الفكري فإن تدخل الدولة لن يبعث الإبداع من قبره.  فهرولة المفكر إلى السلطة ما هو إلا إعلان بانتحار دوره الحقيقي،  إذ هو تكريس للفكرة أن المحرك الأول للظاهرة الإجتماعية ما هو إلا الدولة، وأن المواطن والمفكر على السواء لايمكنهم من تفعيل دورهم إلا من خلالها.  فإن مجرد رضى البعض على أن تتدخل الدولة و تنشر مطبوعة ما ليس إلا رضى منهم أن تتعدى الدولة على حدود دورها؛  كما أن استجابتها للمطالبين بالمنع سيدخلها في مجال توجيه الحركة الفكرية وما له من آثار خطيرة على المجتمع أهمها احتكار الفكر وقتل الإبداع بكل صوره وأشكاله. 
وقد يحتج البعض بما يسمى عند الفقهاء :استصحاب الحال" أو عند الساسة "الواقع القائم"؛  فالسلطة قد مولت وما زالت تمول مشاريعا كثيرة مُنشئة للرأي العام فهناك قصيدة وهنا كتاب وما إلى هنالك من مشاريع يستخدم فيها المال العام لتحريك المجتمع باتجاه فكري معين.  ولكن المشكلة هذه تحتاج إلى نقاش يختلف عن النقاش حول دعوة الدولة للتدخل واتخاذ موقف من انتاج فكري معين، فالنقاش الذي يجب أن يطرح ليس حول انتاج فكري معين وموقف السلطة منه، بل حول "حق السلطة في استخدام المال العام لإنشاء الرأي العام أو توجيهه من خلال مطبوعة أو مرئية" 
إن طرح كهذا يعيد للنقاش الفكري حيويته ويحوله من منفعل يكرر ردات فعل من وقت لآخر إلى أداة فعل إجتماعي تقدم المشروع البناء تلو الآخر ضمن استراتيجية فكرية شاملة تسمح للبعض أن يصيب أحيانا وتجعل للمعارض احتراما كبيرا، فهو أداة تصحيح وتصويب، ووجوده ضروري كمصدر للبدائل الكامنة التي قد تحمل في طياتها الخير للأمة. 
قد تبدوا هذه المقاربة بعيدة المنال، ولكنها هي الأنجع؛ إذ أنها تعيد للمجتمع والمواطن دورهما الحقيقي، فالمجتمع سيختار في نهاية المطاف الأنجح والأصلح من المشاريع التي تُطرح عليه، وسيراكم خبراته من خلال خياراته ليحولها إلى قوة ذاتية تتجاوز دور المفكر والسلطة معا، فلا بد من الوعي العميق بأن الفاعل الحقيقي للحدث الإجتماعي هو المواطن، وأنه كلما مضى المفكر خطوة باتجاه السلطة كلما فقد جزءا من سلطته الإجتماعية، وقد تؤدي مقاربة المفكر من السلطة إلى نتيجة سريعة في لحظة ما، ولكنه يفقد بهذا الحل السحري الفرصة البديلة في تطوير الخطاب مع الجمهور، ويتقاعس عن البحث عن حلول فاعلة حقيقية كانت ممكنة حجبها تدخل السلطة، ومن جهة أخرى تضيع عليه امكانية تطير وسائله باستماعه إلى انتقادات الآخر التي غيبها تدخل السلطة. 
إنه من الضروري رؤية قوة دور المجتمع التي تتجاوز قوة الدين والسلطة معا، والشواهد كثيرة من تاريخ الأمم القديمة والحديثة، سرد ثلاثة منها على سبيل المثال قد يكون مفيدا: فكتابة قصة اليوم بغض النظر عن قيمتها الأدبية لا يماثل التشبب بنساء الحجيج فعمر بن ربيعة ولد يوم استشهد عمر بن الخطاب، وعاش بين ظهراني الصحابة والتابعين، ولكن شعره لم يتحول  إلى معضلة دينية أو سياسية رغم أن قوة هاتين المؤسستين تتجاز قوتهما اليوم بكثير. 
كما أن جميل وبثينة لم يرتكبا ما يخالف الشرع، ولكن المجتمع فرض في تلك اللحظة قواعده وقوانينه دون الحاجة إلى فتوى فقهية أو فرمان وزاري، بل أبعد من هذا يروى أن الخليفة المعاصر أراد أن يرضي والد بثينة و يجمع بينهما بالحلال ففشل. 
وقتل الزانية البكر في كثير من مجتمعات المسلمين لا يقره قانون ولا دين ولا عقل فهل تستطيع فتوى أو فرمان وزاري أن تستأصله من المجتمع!!! 
 وأخيرا يمكن أن تنطبق المقاربة المعروضة في هذا المقال على ما روي عن الإمام مالك رحمه الله، فالإمام مالك عندما رفض أن يستجيب لطلب الخليفة بحمل الأمة على موطئه كان يدرك أنه لو استجاب لأعطى الخليفة سلطة ما كانت له بداية ولو أراد منها خيرا.  فإذا تسلح المفكرون بالثقة بأنفسهم وبأهليهم، "فلولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا" لأدركوا أن اغلى ما يملكون هو هذه الثقة، وأن وسائل نقاشهم ومقارباتهم ما كان لها أن تبعدهم عن قواعدهم، وأن هذه الوسائل عليها دوما أن تفتح الحوار المباشر بينهم وبين الجمهور من أمتهم. 
إنه من السليم أن تنبري أقلاما دفاعا أو نقدا لإنتاج فكري ما، فالتدافع بين الناس على كل المستويات دليل الحياة والنشاط، ولكن أساليب هذا الحوار والتدافع ووسائله تحمل آثارا كبيرة على نتائج الحوار؛ تتجاوز هذه اللآثار قدرة المتحاورين على الحصر والسيطرة.  فالكيفية التي يلعب المفكر بها دوره لها نفس أهمية الهدف التي يسعى له، وكل منهما (الكيفية والهدف) لها نتائجها الإجتماعية التي لا تقل عن نتائج الأخرى.  فممارسات المفكر الأولى هي الخطوات البدائية التي تتحول لاحقا إلى تقاليد حاكمة لأساليب التعامل الفكري، فتفرض سطوتها وأسلوبها على الهدف المرجو نفسه، فكم من هدف سام وجد المجاهدون في سبيله أنفسهم بعيدين كل البعد عن مرادهم الأول بحكم اغفالهم لأهمية التفاعل بين الوسيلة أو المقاربة المتبعة والهدف المرجو. 
محي الدين قصار
إقتصادي عربي مقيم في شيكاغو

No comments: