مع دخول الثورة السورية شهرها السادس تتصاعد دعوات لضرورة عسكرة الثورة والتدخل الخارجي. و يدفع طرفان باتجاه هذا الأنموذج ، الطرف الأول هو النظام، والطرف الثاني وهو ما يهمني هنا هم بعض الأخوة المستعجلون في صفوف الثورة؛ وبناء على طلب بعض الأخوة رأيت أن أصيغ هذا التحليل لما هو ممكن وما هو قادم بالتأكيد في الأشهر القادمات، ويوضح بعض النقاط في نضال ثورتنا أرى أن علينا إدراكها بشكل عميق لكي نتمكن من التحكم ببوصلة الثورة وقيادة مراكبها في عاصفة المواجهة مع النظام ضمن مجموعة المبادئ التي تبنيناها منذ اليوم الأول للثورة. فنحن في الثورة علينا الادراك المبدئي لأسس النضال السلمي، كما أنه علينا أن ندرك ان التدخل الأجنبي لايد للثورة فيه؛ بل هو نتيجة طبيعة النظام الدموي ومن المكمن أن يأتي في ظروف استمرارية سلمية الثورة ومن الممكن أن ينقلب إلى تدخل مرافق لتسليح الثورة.
كلمات في المبدأ: النضال السلمي هو حرب بوسائل وأدوات أخرى:
يطرح البعض اسئلة كثيرة حول خسائر الثورة الكبيرة التي تكبدتها الثورة في الأرواح، فاليوم نقف على أبواب 2500 شهيد ماعدى ما يقارب 1000 شهيد من أهلنا في صفوف القوات المسلحة التي ذبحت على يد النظام لأنها رفضت المشاركة بالإضطهاد. فنحن نستطيع أن نتخيل بسهولة رقما يقارب 4000 شهيد سقطوا خلال الأشهر الستة للثورة والعدد مازال بإزدياد، ومن يطرح هذه الأسئلة يريد ان يستعملها ليؤكد ضرورة تسليح الثورة، وهم محقون عندما يقولون أنه لا يعقل أن نستمر بالذبح دون أن نبدي أي مقاومة. ولكن في الحقيقة وراء هذه المقاربة افتراضية خفية خاطئة تقف على ساقين: الأولى تقول أن النضال السلمي لا يحمل في طياته العنف والقتل، والثانية بأن هذا التكاليف ستكون نفسها لو أننا لم نتبن النضال السلمي.
أما الفرضية الأولى فهي نابعة من إدراك خاطئ للنضال السلمي، فالنضال السلمي هي حرب بكل ما للكلمة من معنى، ولكنها حرب بأسلحة تختلف بشكل جذري عن الأسلحة التقليدية التي يملكها النظام ويُراكم ما قيمته البلايين منها في ثكنات قوات أمنه، ففي الوقت الذي يختار الإستراتيجيون في صفوف الثورة وسائل سلمية تملك الجماهير قدرة أكبر على السيطرة عليها ونترك للنظام اختيار أسلحته واختبار مدى فلاحها في مواجهة استراتيجياتنا، ونحن ومنذ اليوم الأول للثورة ندرك بأن أسلحتنا تختلف تماما عن أسلحة النظام، وأن النظام لا يملك سوى سلاحا واحدا وهو العنف وانه مع كل يوم يمر يثبت عدم نجاحه وفشله في تحقيق أي انجاز على أرض الواقع. لذلك فاننا ندرك أن النضال السلمي لا يعني خلوه من العنف والضحايا، ولكن العنف الذي نراه يكون من طرف واحد فقط وهو عنف الدولة، وهذا ما يجعل العالم كله يقف اليوم مع الثورة السورية وتبهره انتصاراتها التي تتحقق مع كل فجر جيد.
الفرضية الثانية تدور حول ضرورة الدفاع لإيقاف سقوط الشهداء، والسؤال الذي يجب أن يطرح هو كم من الشهداء كان من الممكن أن يسقطوا لو أن ثورتنا لم تكن سلمية خلال الأشهر الستة الماضيات؟ والجواب على هذا السؤال بحد ذاته كفيل بتبديد كل الشكوك الذي يدور حول هذه النقطة، ولكن الصورة الآوضح ستكون أيضا لو أننا أضفنا لعدد الشهداء عدد أولئك ممن كان سيسقط من أهلنا في صفوف الجيش المغلوبين عن أمرهم. فسلاحنا الأكبر في صفوف شعبنا هو المقارنة بيننا وبين النظام؛ فالنظام مستعد أن يقتل الشعب كله مقابل أن يحافظ على كرسيه بينما نحن في الثورة مستعدون أن نموت من أجل أن نخفف التكاليف على وطننا. وهذا البعد الأخلاقي هو الذي يجعل الجميع يلتف حولنا، ولو أن الناس علمت لنا غرضا غير هذا لانفضوا من حولنا.
إذا لا نستطيع أن نستعمل التكاليف التي ندفعها كل يوم كمبرر للجوء إلى السلاح في صراعنا مع النظام. وطول أمد الثورة لايبرر المسارعة إلى التسلح بشكل من الأشكال. والنظام السوري يدفع باتجاه التسلح مع كل يوم ومع كل فعل من أفعاله لأنه يعلم ان له اليد العيا في هذه الساحة، ونحن ننتصر بالثورة السلمية ليس بسبب قوتنا؛ ولكننا ندخل المعركة بأسلحة لا يملك النظام القدرة على التحكم بها؛ وهي تنبع من واقع شعبنا وتلتحم معه على المستوى البنيوي، حتى أصبح منظر مأذنة مصدر خوف للنظام، وبات الزحام في سوق الحمدية ـ الذي من المفروض أن يكون همّ النظام أن يزيده كمؤشر على نجاحه الإقتصادي ـ كابوسا يُسخّر له النظام ما يزيد عن 500 عنصر من الأمن لتفريقه. (أنظر انجازات الثورة السلمية في مقالنا: ليس على الثورة حرج ولا على الثوار حَسْم)
التدخل الأجنبي لا يعني ضرورة تسليح الثورة:
هذه القضية زائفة يفرضها علينا بعض سياسي المقاهي ورواد السياحة السياسية الذين يطيرون من بلد إلى آخر يوزعون تعليمات معينة ومعنية حول الصراع على سورية، فالقاعدة العامة تقول أنك تقرر بين الخيارات التي تملكها، وهذا القرار لا علاقة له بالثورة السورية ولا علاقة لنا به، فالثوار السوريين لا يملكون القدرة على إجبار أي من القوى المعنية بالتدخل لنصرتهم إن لم تكن لهذه القوة رغبة في ذلك، ولا تملك هذه الثورة القدرة على منع هذا التدخل إن أرادت إحدى القوة التدخل في سورية مهما كان شكل هذا التدخل بأي من الأشكال بما فيه التدخل العسكري. إذا مالذي يجعل هذا السؤال قضية ملحة اليوم؟ المسألة الآولى هو نجاح الثورة الليبية بمساعدة التدخل الخارجي، هذا أنشأ إمكانية نجاح ولكنه لم ينشأ حتمية التماثل بين الحالة الليبية والسورية. المسألة الثانية: أن بعض القوى المحسوبة على الثورة تقوم بعمليات مزاودة مؤقتة حول قضية التدخل الخارجي وهم يعرفون أن الوضع يسير على الصعيد الدولي بهذا الإتجاه، وحال البعض أوضح من غيره فهم لا مانع أن يأتي التدخل الأجنبي ماداموا هم الذين يقودونه لا الآخرون. ومن هنا يتم الخلط الشديد بين تسليح الثورة وبين التدخل الأجنبي، حتى أصبح الأمران متلازمين عند هؤلاء.
فالتدخل الأجنبي حقيقة قادم سواء طالبنا به أم لم نطالب، فواجب المجتمع الدولي في حماية المدنيين وإجرام النظام المستمر بحق المدنيين والعُزّل والمسالمين هو الداعي الأول للتدخل الأجنبي، بل أن هذا الإجرام وسلوك النظام هو الذي يفتح أبواب البلد على مصراعيها للتدخل الأجنبي، فإن كان ضمير النظام وضمائر سدنته وقواته الأمنية تتحمل الآثام التي يرتكبها فهذا لا يعني أن ضمير العالم سيتحمل هذه المجازر إلى الأبد، فسواء أحببنا ـ في الثورة السورية ـ أم لم نحب فإن التدخل الأجنبي قادم ولا راد لهذا التدخل إلا رحيل النظام. حتى وإن حدثت معجزة للنظام وفشلت الثورة فإن هذا لا يعني غياب التدخل الأجنبي، فالنظام سيدخل في مرحلة على الصعيد الدولي شبيهة بحالة النظام العراقي في التسعينات أو النظام الكوري خلال السنوات الخمسين الماضيات، ولا أعتقد أن هناك من يدعي أن هذين النظامين كانا في منأى عن التدخلات الخارجية علمنا نهايتها في العراق.
فإذا علمنا أننا في الثورة لا يد لنا في التدخل الخارجي او رده، علمنا أن التدخل الأجنبي لا يعني ضرورة الإرتكاس عن سلمية الثورة، فالثورة السورية يمكنها أن تستمر بكونها سلمية تاركة للمجموعة الدولية تحمل مسؤولياتها في حماية المدنيين، ونحن في الثورة نثور بوسائلنا والعالم يتدخل لحماية المدنيين بوسائله التي يجيد السيطرة عليها، وهذه المقاربة والثبات على السلمية تفتح الباب واسعا لإنشاء مجتمع جديد في سورية يضم جميع أهلنا، ويُسهّل تداعي السلطة دون أن يكون هناك تداعي للدولة، وهذا همّ كبير أُعطيه أولية كبرى في تحديد استراتيجية الثورة السورية. ومن هنا تستمر الثورة السورية في تسجيل نجاحاتها من خلال النضال السلمي؛ فالنظام اكتسب شرعيته الدولية قبل شرعيته المحلية ولخمسين سنة من خلال ارتهاناته الدولية، فالثورة السلمية وضعته في معضلة المواجهة المباشرة مع أحد أسس شرعيته وهو المجموعة الدولية. وبالتالي لايمكننا أن نعتبر أن الثوار هم الذين طالبوا بهذا التدخل، ولكن طبيعة النظام الإستبدادية وإجرامه هي السبب الأول للتدخل الخارجي.
أما أن تتسلح الثورة مع الدعم الدولي وإفلاس النظام الحالي فإنني لا أشك بقدرتها على النصر في هذه الحالة، ولكن الثمن الذي ستدفعه سورية مكلف جدا ولعقود طويلة، فتسليح الثورة لايمكن أن يتم دون التدخل الخارجي ونهاية الثورة السلمية. فبالتالي توكل إلينا مهمات لايمكن أن نحققها دون إرتهانات للقوى الكبرى ومتلازماتها وتوابعها، كما أن تسليح الثورة لا يمكن أن يتم دون انشاء قاعدة "تسليح جغرافية"؛ وبالتالي سيؤدي هذا إلى إدخال الآليات المناطقية والعرقية في معادلة الثورة السورية، وهذا من أسوأ ما يمكن ان تواجهه الدولة، فإن حدث فهذا خطر ليس منه حافظا إلا تصميم الثوارعلى وحدة البلاد والرغبة التركية والعربية بهذه الوحدة وما يجر إليه من تكاليف، بينما تقف القوى الأخرى موقفا متفرجا بهذه القضية.
على الصعيد السياسي علينا تمييز الآليات بين حالتي "التسليح - التدخل" و "السلمية - التدخل"، ففي حالة التسليح والتدخل سيتم فرض قيادات جديدة على الثورة بحسب قربها من القوى المُتدخلة، لذلك سنرى لو أن التسليح بدأ فـ"السباق" نحو هذه القوى بين شخصيات "المُسيّسة" على أشده، كما أن القوى المتدخلة ستجد أنها الفرصة في بناء علاقات مع القيادات الجديدة "التي سلحتها" لإستمرار الإرتهانات لمرحلة مابعد الثورة. لذلك تعلن هذه الايام الدعوات الحثيثة لإنشاء "قيادة" موحدة في الخارج لكي يؤمّن هؤلاء الافرادُ مجموعة علاقات متشابكة تساعدهم على تحقيق مرحلة "السباق" القادمة. أما أن تستمر سلمية الثورة ولو رافقها تدخل أجنبي لحماية المدنيين فإن القيادات الحقيقية ستبقى هي القيادات الميدانية التي "لاتحترف القتال" فيقوم العمل الميداني بصقل مهاراتها وخبراتها وتوحيدها الحقيقي لتضع الصالح من هذه المهارات المكتسبة في خدمة الدولة الجديدة لاحقا.
آخر العلاج الكي:
هذه الايام يصل التدخل الأجنبي بشكله المرن إلى أقصاه، فالعقوبات على الأشخاص والنظام ومؤسساته لم تبق شيئا للنظام من الشرعية الدولية. وقد ينقلب هذا التدخل إلى شكله الصلب قريبا. وعلينا أن لا نخدع النفس في التمييز بين حالة التسليح والسلمية في ظل التدخلات المتصاعدة، فمفاجئات النظام وردات الفعل على التدخل الخارجي ستكون عاملا حاسما في تقرير مسار الثورة ولو عكس إرادة الثوار ورغبتهم في السلمية، فإذا كان بن علي هرب إلى جدة ومبارك إلى شرم الشيخ، لا نستطيع أن نضمن إلى أين سيهرب أسد، فأسد كابيه قبله يهدد بتقسيم البلاد، وعلينا أن نكون حذرين ومستعدين لكل الإحتمالات، فرغم أنني غير راغب بتسليح الثورة أبدا ولكنني أؤمن بانه إن وصلت الثورة إلى حالة قرر فيها النظام مواجهة احتمالات التقسيم او سَوْق سورية في اتجاه الحالة الكورية او الصدّامية، فعلينا أن نملك من الشجاعة ما يمكننا من اتخاذ القرارات المُرة والصعبة في سبيل المصلحة العليا للبلاد، فإذا كان "آخر العلاج الكَي" فإنني عندها سأنصح بأن يكون المبضع الذي يبتر هو أكثر باتر قوة ومضيا في البتر، فنحن لا يمكن ان ندع خوفُنا على ألم المريض ينتج عنه تأخير العلاج أو التردد فيه. لذلك علينا أن ندع كل الأحتمالات على الطاولة أمام النظام، وأن تصميمنا وعزيمتنا على إزالته لا اهتزاز فيه، وأن التكاليف التي يتطلبها إزالة هذا النظام تعتمد عليه وعلى أفعاله فقط. وأنه إذا أضطرّنا للنزال فإننا سننازله ومعنا قوة الحق وكل ما نملك من علاقات وقوى محلية ودولية. وأنه يتحمل وزر تكاليف هذه المواجهات التي يتسبب بها بما فيها دماء الذين سيسقطون من أبناءنا في القوات المسلحة في مثل هذه التدخلات. فنحن نحتفظ لأنفسنا الحق بالإستعداد لمجابهة كل الإحتمالات الممكنة من أجل سورية الغد.
حاشية: طلب مني أحد الأحبة ان أكون صريحا في تصريحي للتأكيد بأننا لا نملك القدرة على التأثير بالغرب في اختيرات تكتيكاته ولا سيما في مجال التدخل العسكري.
شيكاغو 26 آب 2011 الموافق 26 رمضان 1432