محاولة انغماسية في العقل الراكد من أجل ولادة جديدة:


مازال الكثيرون يحاربون بأدوات الماضي ويعيشون في محبس التفكير النمطي،  فالتحليل الذي مارسته الواجهة السياسية العربية والإسلامية منذ عهد الإستقلال حتى اليوم لم يتغير منه شيء، وأهم عناصر هذا التغيير النمطي أنه "لم يترك السابق للاحق شيئا".  فمن طرف أول ترى بعض الإسلاميين الجاهلين بتطبيقات دينهم يطبقون هذه القاعدة لتزيدهم صلابة وبالتالي عجزا عن حل مشاكلهم المستحدثة في كل يوم.  أما أعدائهم فيطبقون هذه القاعدة معتقدين أن مصادر إلهامهم (الغرب وعولمتهم التي يخدمونها بوعي او بغير وعي) قد حل كل مشاكله وأن لا حلا لمشاكلانا إلا ما يمر بمصفاة الغرب الرأسمالي.  فترى أن كلا طرفين أصيبا بعقم انتاجي في الواقع  ؛ ففقد الثاني ارتباطه بمجتمعه وبأصوله وبات يعيش عزلة حتى في قواعده.  أما الأول فتوقف عند حدود التصحيف والتسند وتلخيص الملخصات وتنميقها وفقد قدرته على رؤية الترابط العضوي بين مشروعه التراثي وتطبيقاتها المستحدثة لغياب ممارسات الإسقاط على الواقع. 
هل فعلا نجحت الإنسانية؟ 
كلا الطرفين يعيشان أيامهما الأخيرة،  فلم ينتظر الغرب أتباعه لكي يلحقوا به، ولم يستطع الإسلام أن يقول إن هؤلاء هم أبنائي الذين سينهضون بي. العقدة في الطرفين أنهما رغم كل الأفكار المنمقة التي يحملاها يصابان بالعقم عندما يبدءان في التفكير في النقلة الضرورية التي تنقل واقعنا من اليومي المحسوس إلى الهدف المأمول خلف الشمس.  فعاشت أمتنا (والبشرية) تتنقل من فشل إلى فشل لما يزيد عن قرن من الزمن.  هذا الفشل لا يحتاج لمن يثبته فهو واضح عيان لكل منا.    
فقط في صحراء التيه الممتدة على أنقاض العراق والشام ، في صحراء الجحيم الطائفي ، نرى ارهاصات تجارب جديدة تُبرعم مع كل يوم جديد.  أهم ما في هذه التجارب الجديدة أنه تخرج عن المالوف وعن النمطية وعن التغريب، وبقدر تعلقها الظاهري بالتراث السلفي ،  بقدر ما تحمل في رحمها امكانية التجديد وانتاج ولادات جديدة أقل ما يقال عنها أنها "غير نمطية."  

حدثان في غاية الأهمية ظهرا في هذا الأسبوع بامكان القارئ أن يرى فيهما تطبيق ما نعنيه بكلامنا اعلاه إن بدا مبهما؛ الأول: هو إعلان #الدولة_الإسلامية بأنها عازمة على إصدار نقدا جديدا معتمدة على قاعدة الذهب الإقتصادية.  والثانية هو الاتفاق بين الدولة الإسلامية وبعض القرى المسيحية في العراق. فكلاهما يمكنك أن تصفهما بكل شي إلا بصفة "النمطية" .  وقد يبدو ـ لمن يحمل ذهنا ديكارتيا (احادي الأبعاد) تراكمت فيه تجارب مابعد الإستعمار الفاشلة فالقت على الأعين غشاوة وفي القلب وقرا ـ أن يظن أن هذه التجارب تعيش في الماضي.  ولكن في الحقيقة علينا ان ننظر لهذه التجارب لا بعين الديكارتية ولا بعين عصر ما بعد "النظرية النسبية" بل بعيني عصر الكوانتوم (Quantum ) [تترجم عادة مزاجا "فيزيا الكم" وهي ترجمة مغلوطة حرفية لنا حديث حولها في مناسبة أخرى] ، فذهن يتسلح بأبعاد الإحتمالات الكثيرة تعدادها يعادل ما خلق السماوات والأرض من نجوم ومجرات سيجد في كل تجربة مفتاح نور ممكن لإمكانيات جديدة لم نكن نتوقعها.
أنه من المؤكد أن المشاريع التي تسيطر على عقل البشرية اليوم ما هي إلى مشاريعا ديكارتية خطية.  تبدأ بتكرار ما حدث في مكان آخر (الغرب عادة) ، وتكررها آملة أن تنتج نتائجا مختلفة. ونقول بأن هذه التجارب بامكانها أن تنتج نتائجا اخرى لو أن قدر لها التخلص من عبء التجربة الأم.  ولكن مع وجود الغرب يصبح تجيير هذه التجارب لصاحبها الأصلي حتمية أو تدميرها إن لم توافق مصالحه،  ومن مازال حبيسا للفكر الديكارتي سيتعامى عن أهمية تمايز التجربة المستجلبة وبالتالي يسهل أن نقول بأن النتيحة في هذه التجربة حتمية ولا تخرج عما وصل له الآخر قيد انملة. 
ما يجري في العراق والشام اليوم أنه تتم عملية تفكيك لهذا الفكر الأحادي بفكر قد يعتقد البعض حتى صاحبه بأنه فكر أحادي آخر.  ولكن الرغبة التدميرية لهذا الفكر يقوم بعملية نسف الموروث والماضي والحاضر ، ويقوم بتصحير الفكر وتعريته من كل درن التاريخية، وبالتالي نجد أنفسنا حضاريا عراة ـ كما ينبغي ـ أمام لحظة ولادة جديدة.  فيستلهم مما هو أصيل ويسمح بمسائلة كل الاضافات عليه، هذه المسائلة ليست على المستوى الفكري والتي ستأتي (احتمالا) لاحقا.  بل مسائلة على مستوى الواقع والتطبيق.  فالاتفاق مع النصارى في العراق تم من خلال نص أصيل انطلاقا من رغبة في تطبيقه ولكن لا يضمن تكرار نتائجه السابقة، وهذا مصدر الروعة في هذه التجربة،  فهذه التجربة بأصالة نصها وعريها من تاريخيتها وخلاف حيثياتها ليست بالضرورة أن تنتج نتائجا سبق أن رأيناها.  كما أن العودة لـ"لدينار الذهبي" لا تعني عمليا العودة بالتاريخ إلى قديم الزمان،  فآخر مرة طبقت فيها النقود الذهبية بشكل أو آخر كانت 1970.  ولكن ما تعنيه هذه التجربة هو التحدي الذي تحمله للموروث العالمي، التحدي الذي يقدمه لعالم يقول لنا أنه لا حل إلا من خلال الولوج من سم الخياط الذي دخل الغرب والشرق منه.

علينا أن نتذكر هنا أن الذهن في الكوانتوم يفتح لنا أبواب احتمالات كثيرة وأخطر هذه الاحتمالات تلك التي تدفعنا لها المعركة وطبيعتها ، وما نحمله من درن تاريخيتنا، وما يواجهنا به سدنة المعبد وحراس البوابة ورغبتهم لايصالنا لنتائج يرغبونها .  فالـ"طفرة" لما هو جديد هو إمكانية (احتمال) وليس حتمية. مما هو مؤكد إن تكرير المكرر لن يضمن إلا النتائج نفسها.  فنتذكر أن تسلحنا بالإيمان لا يضمن شيئا إن لم ننتبه لوسائلنا وأهدافهم.  فعلينا أن نتذكر أنه كما كان للرأسمالية التجارية تراث العبودية ومذابح الهند وأفريقا والهنود الحمر،  وكما كان للديمقراطية ولليبرالية الغربية هتلرها ومحارقها ونهايتها العنيفة الحتمية، وكما كان للبولشفية والماوية خميرهم الحمر وشعوبهم المسحوقة،  فمن الممكن أن تتحول تجاربنا إلى محرقة عقيمة تفشل المشروع الجديد عن إنتاج اي جديد.  
  
شيكاغو الخامس من إيلول 2015. 



No comments: