Wednesday, January 12, 2022

تصنيع القرار السياسي في واشنطن بين الجد والهزل

 في السنة الأولى من الثورة (وقبلها) كنت أردد قائلا:  "لو أن وزيرة الخارجية الأمريكية تفكر بشأن سوريا ربع ساعة اسبوعيا فسأكون مبالغا"،  طبعا من يتابع الاخبار فقط يرى أبواب المعبد الفرعوني تنفتح آليا عندما يشعل الكهنة النار فيحسبها الناس أنها سحر من عمل الكهنة، ولكن لا يعلمون أن هناك آلية في المدخنة متصلة بالباب فإذا ارتفعت الحرارة فيها دفعت بالأبواب للإنفتاح فيحسبها المغفلون سحرا.  كذلك متابعي الأخبار في هذه الأيام.  وطالما طفقت أشرح لأصدقائي السوريين والعرب والمسلمين طريقة صنع القرار السياسي في القصر الأمريكي ولكن طول الطريق ومشقة الفهم تحيل دائما بين الإنتقال من الإدراك للتطبيق وبين النظرية والفعل.  

شاهدت فيلما يعتبر من الـ"كوميديا السوداء"  اسمه "لا تنظر للأعلى https://www.netflix.com/title/81252357   هذا الفيلم مُسلي ولو لم يكن لك مصلحة في إدراك عمل صناعة القرار السياسي في واشنطن وإدارة الإعلام داخل مؤسسات توجيه الرأي العام "الحرة" في مراكزالإمبراطورية الأمريكية.  فالفيلم في الأصل ينوه على ثقافة التجهّيل التي يشهدها المجتمع الأمريكي خلال الثلاثين سنة الماضيات انطلاقا من حملة شعبوية المجتمع والتشكيك بالمرجعيات.  فبينما تُسقَط هذه المرجعيات "العلمية" التي تحمل ديالكتيك التصحيح والتقويم الذاتي التي بنت في القرنين المنصرمين الـ"عظمة الأمريكية"، يتحول المثقف والمختص في هذه الـ"ثقافة الجديدة"  لإنسان مشكوك فيه ومنبوذ بل خائن.  

طبعا القضية ليست جديدة على المجتمعات الإسلامية ومجتمعات العالم الثالث.  فمع غزو"الأعراب" المدن من خلال الإنقلابات العسكرية في حقبة ما بعد الإستقلال شهدت مجتمعاتنا عمليات التصحير والترييف لثقافات بلادنا (اقرأ: مقالنا الأعراب: معالجة ليست العنصرية في القران)  بنفس الطريقة التي نشهد تحولات الوضع الثقافي في أمريكا، حتى أن طرمب و اليمين الأمريكي يتهم سكان المدن بـ"اليسارية". 

خلال هذه الخاطرة  أحببت أن ادعوا القارئ العربي ولا سيما السوري الذي يحمل "حلم امرؤ القيس" بأن يدخل القصر في روما، وأن يقوم البيت الأبيض بمعونته كما أعانت روما إمرؤ القيس قبل 2500 عاما بأن يشاهد هذا الفيلم. ويتعلم منه آليات اتخاذ القرارات في كل من النظام السياسي والإعلامي،  وإن بدى الفيلم "فكاهي"  ولكنه ليس بعيد أبدا عن حقيقة القرارات السياسية هنا.  

فالثوابت التي علينا إدراكها أن مهما تملك من حقيقة ومهما تملك من إنسانية ومهما قدمت من شهداء فلا ناصر لك في واشنطن ما لم تحسن تقديم قضيتك والتعامل معها كما يفهمها القصر لا كما يفهم الحق. وأنا لا أقول أن نُهمل النظام الأمريكي ولا نتابعه، ولكن لا بد من متابعته على أسس حقيقية تدرك طريقة عمله القائمة وتستخلص منه ما يسمح نصرة قضيتنا.  وهناك تفاصيل يمكن أن اضيفها هنا ولكن لا أريد ان أفسد على القارئ متعة مشاهدة الفيلم.   لأن أحداث الفيلم من الممكن أن تتطبق على دفع "نيزك يهدد كوكب الأرض" أو تغيير نظام يقتل الأطفال في النصف الثاني من الكرة الأرضية.  

محي الدين قصار

شيكاغو 1/12/2022