Tuesday, May 05, 2020

زمان تصفية الشعوب والطبقات الهامشية بالسياسات المالتوسية


ما نراه من تخبط للسياسيات الاقتصادية في ظلال التهديد الصحي لوباء كورونا ليس بالجديد على البشرية. فالإطار النظري  في الاقتصاد السياسي لهذه السياسات يعود للإقتصادي توماس روبرت مالتوس (14 فبراير 1766 - 23 ديسمبر 1834)؛ مالتوس ينطلق من فكرة بسيطة مفادها أن معدل نمو السكاني أعلى من معدل النمو الاقتصادي، بناء عليه تحتاج البلاد لفترات تصفية بين الحين والآخر لكي تعيد التوازن بين هذين المعدلين.  من هنا ينتج عن مقاربة مالتوس بأن الحروب والأوبئة والمجاعات هي شي ضروري للتوازن المعيشي الرأسمالي. وينتج خلال هذه الفترات حالة تفاضلية يفرز فيها الذين سيُستغنى عنهم في عملية إعادة التوازن بين المعدل السكاني والمعدل الإنتاجي.  
طبعا وصفت هذه النظرية بـ"اللإنسانية" وشجبت على المستوى الفكري فقط.  ولكنها خلافا لما هو شائع اعتُبرت التأصيل الفكري الذي يُبرر الاستعمار في آسيا وافريقا وجنوب أمريكا. حتى داخل الأمم ذات المراكزية الرأسمالية تُنظّر المالتوسية للعلاقة بين النخب البيضاء الغنية والنخب الفقيرة (بيضاء او غير بيضاء) من خلال هذه الرؤية، فالهنود الحمر في أمريكا وكندا كانوا من أقرب الضحايا تاريخيا. ومازال السود والهنود الحمر يعيشون في جحيم هذه السياسات؛ يمكننا أن ننظر في امثلة كثيرة كبرنامج المدارس الداخلية الكندية التي هدفها تحجيم الوجود الهنود الحمر في الثقافة الكندية والذي جعلت رئيس الوزارة يعتذر عن ممارساتها في 2008. طبعا لا يفوتنا نشر الجيش الإنجليزي الجدري بين القبائل الأمريكية التي ذهب ضحيتها ملايين الهنود الأمريكيين (25-30 مليون نسمة) في القرن السادس عشر والسابع عشر. واللائحة طويلة للمهتمين بالعثور عليها.  بل هناك تجارب طبية أقيمت على نساء السود في امريكا لتجربة بعض البحوث الطبية.  وآخرها تجربة تطبيق ادوية وتعقيم تناسلي، طالت 150 ألف افريقي امريكي في الستينات ومنتصف السبعينات من القرن العشرين دون موافقتهم أو علمهم.
عندما نضع هذا التاريخ في البال يبدو أن دعوة الرئيس طرمب طبيعية لعقول هؤلاء.  فهو يدعوا لتطبيقات الأدوية التجريبية في المناطق ذات الكثافة السوداء مثل ديترويت ميشيغان وولاية جورجيا. وفي الحقيقة يُغَطّى هذا تحت ادعاء ان الأدوية صالحة لمعالجة أمراضا اخرى،  فإن نجحت التجربة انتصرت الشركات وإن لم تنجح لا يُتهم بأنه قتلهم.      
من الصعب اليوم أن نكشف عن سريرة صانعي السياسة في العالم حول حيثيات قراراتهم للتعامل مع وباء كورونا، وفيما إذا كانت منطلقة من رؤى مالتوسية أم لا، ولكن بنتائج هذه القرارات والسياسات المطبقة تظهر أنها مالتوسية في كثير من الأقطار، حتى وإن لم يتعمد صانع القرار أن تكون. ومن هنا بامكاننا أن ننظر لعدة دول في منطقة الشرق الأوسط على أنها تواجه الوباء بنظرات مالتوسية.  فإيران والعراق وسوريا ومصر مثال واضح على الدول التي تبنت "المناعة الإشباعية" وهو أن لا يقاوم الفيروس ويُترك ليصل إلى ذروته.  وبعدها يتم الفصل بين من يبق واحتفظ بمناعته من المرض ومن لم يتحصل على مناعة منه.  بكلمة أخرى، لسان حال هذه الدول أن خسارة 3% من الناس أمر مقبول بل قد يكون مطلوب.  (على اعتبار ان 3% هي نسبة الوفيات الملاحظة من بين الإصابات.)  طبعا وراء هذه القرارات محاولات تغطية على درجة التخلف في اجهزة الدولة الطبية في دول نفطية غنية كالعراق وإيران، والشعور بأن هناك ضغطا سكانيا كبيرا يمكن للوباء ان يخفف هذا الضغط ولو جزئيا.  ومع غياب  جهاز التكافؤ والعدل في "فلسفة" هذه الدول سيكون الوباء عالة على أدنى الطبقات التي لاتملك المال أو السلطة للوصول للغطاء الطبي اللازم. وبالتالي سيكون اغلب ضحايا هذا الوباء في هذه الدول من البعيدين عن السلطة الحاكمة،  يمكننا تخيل جهاز التنفس الاصطناعي المتوفر لمن سيقدم للمريض الإيراني (الشيعي) ام للمريض العراقي. أو هل سيحصل عليه صاحب رأس المال أم الفقير. 
السياسيات المالتوسية تطبق بشكل فج وقبيح في الدول المتخلفة أما في الدول المتقدمة فتكون بشكل أكثر تمويها.  حتى في الولايات المتحدة الأمريكية نلاحظ أن حصص الاسد من مساعدات الدولة تذهب للشركات الكبيرة بينما تبق الشركات الصغير والناس يتلقون من الدولة الفتاة لإرضائهم وشراء سكوتهم. وقد يسمع العامة بأرقام خيالية من أموال هذه المساعدات، ولكنها "خيالية" فقط على مستوى الخيال العادي،  أما على مستوى التخطيط وحجم الآلة الأمريكية فهي لاشيء يذكر،  فعلى سبيل المثال،  يهلل سدنة الرأسمالية الأمريكية لمنحة قدرها 2.3 ترليون دولار توزع عليهم (ترليون = الف مليار = مليون مليون)  ولكن إن علمنا بأن آخر طائرة مقاتلة-قاذفة صنعها سلاح الجو الأمريكي كانت كلفتها واحد ترليون دولار،  ندرك ضآلة المبلغ الموزع.   
إن السياسات المعلنة اليوم لمواجهة كورونا تحاول جاهدة أن تلقي اللوم على الوباء الذي سبب الأزمة الأقتصادية، والناس سراعا ما تتناسى أنه خلال السنتين السابقتين كان هناك شبه اجماع بين الاقتصاديين تحدثتُ عنه مبكرا ومرارا بان 2020 ستشهد ازمة اقتصادية. وذاك قبل ان تظهر الكورونا. ومن جهة ثانية، بينما يترك المرض يفتك بالمهمشين في العالم، يتم نص القوانين بحيث يستفيد منها المركز لنرى اكبر عملية نقل للثروة خلال 2020-2021. حيث سيخرج العالم بعد كورونا بمراكز مالية جديدة وتوازن اقتصادي مختلف عما شهدناه سابقا.  والطرف المتفائل من هذه المعادلة أن الدول التي سهرت على توازن العدل الداخلي فيها ستخرج أكثر قوة وترابطا ولا سيما إذا رسخت الأزمة فيها اسس وثقافة العدل الإجتماعي. 
بينما ستخرج دول السياسات المالتوسية بضعف داخلي يفقدها أي شرعية داخلية ويدفعها للنزاعات داخليا وخارجيا.  وستجد الدول التي احتفظت بفائض نسبي من تسلط القوة؛ حاجة داخلية (للدول الضعيفة: إيران واخواتها) للتنمر على جيرانها من أجل بناء علاقات قوة جديدة في عالم جديد.  وصرف النظر عن حالة الاختلال الداخلي. أما دول الأخرى وعلى رأسها  الولايات المتحدة الأمريكية فستكون الصراعات الخارجية من جهة وكبح جماح الطبقات الهامشية من ناحية أخرى وسيلتها الأساس من أجل الوصول إلى نقطة اتزان جديدة في عالم جديد.  هناك بعض الظواهر التي تؤشر إلى ارهاصات هذا المستقبل منها:  قرار امريكا بوقف كل الهجرات إلاّ الهجرات الفنية والطبية وذلك محاولة لاحتكار اليد العاملة المؤهلة في العالم والتي ستدخل مباشرة في صراع مع المصالح الالمانية عل سبيل المثال. وهكذا ستكون الضغوط العالية التي تنشئها العطالة عن العمل وارتفاع الأسعار على الدخل الفردي الحقيقي في هذه الدولة اسبابا اضافية تجعل الوضع الداخلي في حالة احتقان مستمرة؛ مما يجعل الحرب امر ضروري لتبرير هذا الاحتقان والخلل.

محي الدين قصار
شيكاغو 5/5/2020