10/11/2005
تقزُم هموم الامة وسقوط "الرسمي" من المشاريع:
تراجعت النقاشات حول هموم العالم كما تراها الأمة العربية والاسلامية ، فالصراع مع الفقر والعطالة والجهل انحسر للموقع الأدنى، وتحول البعد السياسي إلى البعد المهيمن إن لم يكن الوحيد لهذه النقاشات، وهذه ليست خاصة عربية أو إسلامية، بل أن النقاش حول العولمة ونتائجها في العالم كله تراجعت للصف الثاني ليحل مكانها هموم المنبعثة من الهيمنة الأمريكية على الساحة السياسية في العالم، فالعالم العربي والإسلامي يشهد أزمة أضاع معها وجهته الحقيقية، وفقد الكثير من معالم رسالته الحضارية، بل أننا لا نكاد نسمع شيئا عن رسالتنا ودورنا الحضاري. وفي الوقت نفسه تقدم مجتمعات انسانية اخرى في العالم الثالث ولا سيما في امريكا اللاتينية محاولات لاعادة احياء المشاريع الحضارية التي يمكنها التعامل مع مشاكل البشرية بعيدا عن محاور الهيمنة التي تسعى لها السياسات أحادية القطب بينما تغيب اخبار مشروعنا الحضاري نهائيا عن صفحة النقاش الفكري والسياسي.
واليوم تأت الدمقرطة (عملية التحول الديمقراطي) تطرح نفسها كحلا لكل المشكلات العالقة في مجتمعات العالم العربي والإسلامي. وفي هذه العجالة أريد أن أبين أن الدمقرطة ليست مشروعا لإنشاء حضارة، ولكنها خلال المعطيات الراهنة، اصبحت الدمقرطة شرطا أصليا لإتاحة المناخ لولادة مشروع حضاري للأمة. ونحن في سعينا وراء هذه الديمقراطية علينا أن لا نوهم الذات بأنها الحل السحري، ولكن علينا أيضا أن ندرك أن بدونها لا يمكن لمشروع الأمة أن يقف على قدميه. لذلك علينا أن نرى ماذا حدث لمشاريعنا الحضارية وأن نرى فيما إذا كنا نملك تربة صالحة لانشاء مشروع جديد.
ماذا حدث لمشاريع الأمة؟
فمشاريع الأمة كلها اليوم قد حورت عن محتوياتها الحقيقية، فهناك ثلاث حلقات من المشاريع المتوازية عملت في الساحة منذ الإستقلال: وهي المشروع القومي، والمشروع الإشتراكي والمشروع الإسلامي. وكل من هذه المشاريع تحول إلى "مشروع رسمي" تبنته السلطة في مكان ما في مراحل الإستقلال المبكرة. فالمشروع القومي "الرسمي" وقرينه مشروع "التحرير الرسمي" الذي يمثل تيار الحكم في سوريا آخر معقل له فشل في تحقيق كل أهدافه، بل أن آخر أنفاسه خرجت مع إعلان موقفه العاجز من الغزو الأمريكي للعراق، أما خروج سوريا من لبنان بالطريقة التي حدثت فكان آخر مسمار في نعش هذا المشروع. ورغم نعينا لمشروع القومية العربية الرسمي ولكنا ما نعلن وفاته هو الجانب الـ"رسمي" من هذا المشروع؛ ولكن ما زالت هذه القومية ذات وجود على المستوى الشعبي لا يستهان به.
والمشروع الثاني هو المشروع "الإشتراكي"، وفي هذه الحال علينا أيضا أن نعرفه كمشروع "إشتراكي رسمي"، فهذا المشروع أيضا فقد الكثير من قيمته منذ منتصف الثمانينات، فقد اعلنت وفاته الرسمية مع سقوط الاتحاد السوفياتي، ولكنه يؤسفنا أن نعتبر أنه لم يلد في مجتمعاتنا ليموت، فالاشتراكية كما تبنتها نخبنا السياسة المتلاحقة لم تكن إلا وسيلة للسيطرة على الفضاء الإقتصادي للأمة، وتركيز المصادر الإقتصادية في يد السلطة المركزية. وإن استطاعت "الإشتراكية الرسمية" من تحقيق بعض اعادة التوزيع في الثروة داخل الوطن؛ ولكن النمو الإقتصادي لم يتمكن من تحقيق التسارع المطلوب، وبالتالي لا نستطيع أن ندعي أن المستفيدين الحقيقيين من اعادة التوزيع قد حققوا وضعا أفضل من وضعهم لو أن اعادة التوزيع لم تحدث واستعيض عنها بنمو اقتصادي مواز أو قريب للنمو في النظام الرأسمالي.
ولا يقل المشروع الديني "الرسمي" ضياعا عن المشاريع الأخرى فإن حالف النجاح الجانبين السلفي و الشيعي منه في تماهيما مع السلطة الرسمية كالحالتين السعودية والإيرانية، ولكنه لم يستطع أن يتحول لرسالة تضع مجتمعاتها على الطريق الحضاري الحقيقي وتولد مشروعا حضاريا يحدد موقعها بين الأمم، فلولا مكة المكرمة والمدينة المنورة والبترول لما سمع أحد في الدنيا بالجزيرة العربية ولولا البترول لما دخلت ايران بمعجم أحد من الناس في العصر الحديث. فأفغانستان اليوم هي صورة عن مصير هذين الجانبين من التيار الدين لو سحب البترول منهما.
وأعتقد أنه من المضيعة للوقت محاولات نفخ الروح في أي من هذه المشاريع ضمن الظروف القائمة، وأن كانت الأفكار الحاملة لهذه المشاريع أفكار جديرة بالنقاش ولكن تبق اهميتها وقدرتها على الاستمرار والتحول يوما ما لمصدر فائدة في بناء مجتمع جديد نابعة من ترسخها في اللاشعور الفردي. وبمقدار تخلي هذه المشاريع عن "السلطة الرسمية" والتوجه للفرد بمقدار ما ستتسارع عملية صقلها وإعادة صياغتها في حلة جديدة أكثر صوابا وأقرب لمشروع حضاري لأمة.
ومن الممكن أن نغوص بخصائص كل من هذه المشاريع وأسباب فشلها، ولكن ما هو أهم من هذا في مرحلتنا هذه التأكيد على أن العامل المشترك في فشل مشاريعنا هو الجانب "الرسمي" من هذا المشروع. وأن مشكلتنا الرئيس مع هذه المشروع أو ذك قد لا تكون في المشروع ذاته بقدر أن يكون في أداته الرئيس "وهي السلطة". فكما تردد على ألسنة الكثير بأن السلطة أسوء مدير للموارد وأكثر عرضة للخسارة في أعمالها، فإننا نؤكد هنا أن السلطات القطرية أساءت لهذه المشاريع النبيلة أكثر مما أحسنت إليها.
فقد عاشت السلطة في مرحلتي الصراع مع الإستعمار وما بعد الاستقلال في فضاء بعيد جدا عن الفضاءات الاجتماعية وامتداداتها التاريخية المتأصلة. فالسلطة التي تبنت هذه المشاريع - أو احدها- عجزت عن أن تكون امتدادا لحراك وتطور البنية الاجتماعية والاقتصادية، فعوضا عن أن تنطلق منها لتطويرهذا الحراك المتأصل أنشأت القطيعة معها وابحرت بعسدا تبحث عن "ميلاد مجتمع جديد"، وكان نصيب الثورجيين من هذه السلطات اكبر في القطيعة من النظم العربية المحافظة. وكلما امعنت الدولة في فشلها بكل ما سعت إليه كلما زادت تلك القطيعة مع مجتمعاتها وصيروراتها التاريخية الذاتية.
حصلت قطيعة مع مفاهيم السلطة التاريخية او دولة ما قبل الإستعمار.
لذلك سأعرج على تاريخنا الحديث لمراجعة دور الدولة كما رأته دولة الاستقلال. ثم ننظر للهيكل الاجتماعي للمشاركة في القرار السياسي الذي مارسته مجتمعاتنا خلال عصور ازدهارها من خلال مثال "الأصناف" أو ما يدعى حديثا بالجمعيات المدنية. لنصل إلى مبتغانا بأن الأمة مارست العملية السياسية بوسائل ابتكرتها نابعة من الذات والشروط التقنية والثقافية المتوفرة. وهدفنا التأكيد على أنه لكي نعيد خلق نظام حضاري يناسب قيمنا وثقافتناـ فلا بد للعودة إلى المواطن كصاحب المرجعية التي تمنحه الديمقراطية الحرية والقدرة على العمل، وأن هذا المواطن عندها قادر على تشكيل النظام السياسي الذي يناسب الأمة ومشروعها الحضاري.
دور الدولة المسيطرمفهوم غربي:
مما لا شك فيه أن الأمة العربية والاسلامية جمعاء تقف اليوم على مفترق طرق سيحدد وجودها الذاتي ووجودها الحضاري. في هذه اللحظة تتدافع تيارات فكرية وعقدية دينية تطرح نفسها علينا كحلول سحرية، من هذه التيارات من تربع على عرش قيادة الأمة منذ لحظة الاستقلال وما زال يوهم الذات بالقدرة على طرح الحلول، ومنها ما يتذبذب بين مستورد شرقي أو مستورد غربي تارة باسم الاشتراكية وتارة باسم الديمقراطية، ومنها ما غاص عميقا في ماضي الأمة عساه يتمكن من إعادة أمجادها. والأرض المشتركة لكل هذه التيارات هو نظرتها جميعا لدور السلطة في تحقيق المشروع الذي حمله التيار. ودور السلطة في العقل الجمعي لكل هذه التيارات في هذه المشاريع دور أصيل لا غنى فالسياسي في هذه التيارات سابق لكل شئ آخر بل هو أصل الحديث حتى عندما تؤمن هذه التيارات بأنها حقيقة أو وهما بأنها حاملة لمشروع حضاري.
فقد ظهرت بعد الاستقلال السلطة المُحدِثة (من تحديث المجتمع) فكانت هناك السلطة المحدثة -المُؤشْرِكة (نسبة للاشتراكية) و السلطة المحدثة المُغرِبة (نسبة للمحاولات التغريب القائمة فيها). وكان هناك سعيا للسلطة المُؤسلِمة (نسبة للإسلام)، واليوم تأت الرياح الأمريكية لتدعى امتلاك الحقيقة المطلقة والحلول السحرية -كما ادعى غيرها قبلها- تحت عنوان السلطة المُدمقرطة (نسبة لفرضها للديمقراطية.) ونحن هنا لا يهمنا هنا أن ننقض أي من هذه التيارات التي تركب عنق السلطة أو نفتح حسابات قديمة أو جديدة معها، ولكن نظرة للواقع القائم في هذه اللحظة التاريخية يبين لنا أن الخيارات التي علينا أن نتبناها اليوم ليس من الضروري أن تكون هي الخيارات المطروحة أمام الأمة، فما هو مطروح على الأمة ليس إلا جوابا على أزمة الأمة في تاريخها الحديث أو أزماتها المتلاحقة، فلا يمكننا تجاهل دول الغرب والشرق في طرح كثير من هذه التيارات، ولا يمكننا تجاهل أن بعضها كان نتيجة رد فعل على واقع قائم، وبعضها كان محاولة تصحيح اشتطاط ، فأتى بصورة اشتطاط باتجاه معاكس، فكيف تعيش أمة الوسط كل هذا التجاذب بين طروح لا نغالي إن قلنا عنها بأنها طروحا مأزومة لأنها بحد ذاتها كانت نتاج أزمة ما.
واليوم نتكلم على السلطة والمدمقرطة في العالم العربي والاسلامي وكأن دمقرطة السلطة هو "مشروع حضاري كامل" للأمة، ونتناسى دون أن نسلب الديمقراطية فضائلا لها- بأن الديمقراطية هي نتاج مشروع حضاري وثقافي وليس محرك هذا المشروع أو مولدته.
الديمقراطية احد ضمانات المشاركة في صنع القرار:
فإذا نظرنا لمفهوم السلطة وتداولها بعين الغرب نجد أن الديمقراطية هي الممارسة الاجرائيية التي وجدها لتناسب دفعه الحضاري، وأنا سأقف عند بعض الممارسات السياسية في مجتمع المسلمين، فرغم غياب الدولة "الديمقراطية" كما يعرفها الغرب، ولكن مجتمعاتنا في ما قبل الاستعمار، عرفت ولعصور طويلة طرقها الخاصة للممارسة السياسية بعيدا عن ضرورة التعاقب السياسي، فرغم تسلط "الدولة السلطانية" على قيادة الدولة ولكن المجتمعات الإسلامية استطاعت أن تقلص من دورالسلطة وتجعل ممارسة القواعد الشعبية للسياسة بأوسع أشكالها. ونحن إذ نقدم لهذه الممارسات ليس من باب الوقوف على أمجاد الأمة أو التغني بالأطلال، بل من باب التأكيد أن أوجه الممارسة السياسية ليست بالضرورة أن تكون أوجه الممارسات الغربية. فكما سبقت لمجتمعاتنا ابتكار سبل الممارسة السياسية، من الممكن أن نطمح أن نراها تبدع ممارسات جديدة إذا خلقت وتأمن البيئة الضرورية لها. هذه الابداعات ليست واجبا وطنيا فقط ولكنها واجب انساني يجيب على التحدي الذي تطرحة ادعاءات "وحدانية الفكرة الغربية وممارساتها" وقد يقدم للانسانية بدائل مفيدة لمشاكل الديمقراطية نفسها ومرحلة ما بعد الديمقراطية كما يسميها المصطلح السياسي الغربي.
مثال تاريخي من الممارسة السياسية الداخلية للأمة:
فالمجتمع العربي كان منظما ذاتيا بعيدا عن تدخل السلطة، فقد عرفت مجتعاتنا ولفترات ما زلت أذكر بعض آثارها من طفولتي تنظيمات "مدنية" مستقلة عن السلطة، هذه التنظيمات تدعى بالأصناف. وهي أقرب ما تكون اليوم لنقابات المهنيين، فكل أصحاب مهنة ينخرطون بالصنف المخصص لهذه المهنة، وقيادة هذا الصنف لا يتم تعيينها ولا يد للسلطة السياسية بالقرارات التي يتخذها الصنف، فقيادة الصنف يتم اختيارها من قبل أهل الصنف نفسهم على أساس مزيج من الأخلاق المهنية والاجتماعية والكفائة المهنية، فلا يمكن أن يصل بهذه الطريقة إلى زعامة الصنف إلا من حصل على نوع من الموافقة الجماعية (يمكن أن تسميته إن شئت "انتخابا" غير رسمي) لأصحاب الشأن أي لأصحاب المهنة. والصنف يقوم بادار شؤون مهنته بذاته بحسب ما تقتضيه المصلحة العامة لهذا الصنف، فصنف الدباغين مثلا هو الذي يقوم باختيار مكان انشاء معامل الدباغة بما يناسب مصلحة المهنة ويقوم بمنح تراخيص العمل بعد اختبار المهنيين الجدد، وتحديد شروط صحة الممارسات التقنية، وكميات المياه المستعملة. وهو الذي ينظم علاقات السوق وخلافاته، فبذلك كانت قرارات قيادة الصنف دائما أكثر توفيقا من أي قرارات قد تتخذها السلطة، فمن جهة يبني الصنف قراراته على خبرة حقيقية تقنية نابعة من تجربة في تلك الحرفة.
ومن جهة أخرى تحمل قرارات الصنف دوما سلطة الزامية لأهل الصنف غير نابعة من الطبيعة التسلطية للدولة، بل هي نابعة من اقرار اجتماعي عام بشرعية مضمونها مدعومة بالسلطة الأدبية والأخلاقية والتمثيلية التي تمثلها قيادة الصنف. ونحن لا نتكلم من فراغ وإن كان طال الأمد ببعضنا وخانت بعضنا ذاكرته، ولكن حواضر الإسلام ما زالت ذاخرة باسماء العائلات التي تذكر بقيادات هذه الأصناف، فنسمع هنا بـ"شيخ الحدادين" وهناك بـ"شيخ الصباغين" و"شيخ البيطار"وغيرها من عائلات قد يكون أحد من أسلافها شغل شيخ الكار في يوم من الأيام. أما السلطة السياسية الممثلة للدولة فقد حصرت تدخلاتها بالمحتسب. الذي كان ممثلها في ساحة السوق، وقد نجد أن دور المحتسب يمر بمد وجزر حسب ما تقضيه المصلحة العامة، وحسب تراتيب الأمور داخل الأصناف.
ومن جهة أخرى لا يعني تقديمنا لهذه الصورة أن وجود الصنف اسكت الحراك الإجتماعي، أو أنه خلق جوا من السكون التنظيمي، فالمجتمع الإسلامي كانت هذه التنظيمات وسيلته الرئيسة للمشاركة السياسية. بل قد يصيب الصنف ما يصيب أي تنظيم إنساني من آفات فيطغى، فإن طغى الصنف بقراراته، فكانت زيادات الأسعار، أو ضرر العامة من ممارسات أهل الصنف، فتجتمع العامة مع المحتسب ويتآذرون على الصنف إلى أن يعود الصنف عن بغيه، أما إذا اشتطت ممارسات السلطة وزادت تدخلات المحتسب بما لا مصلحة فيه فإن العامة تجتمع مع أهل الصنف فيتعاونون على مجابهة السلطة ومحتسبها ليعيدونه عن سياسياته.
وخلافا لما قد يظن البعض أن الممارسة السياسية وجدت طريقها للجماهير عندما أقيمت الديمقراطية، فإذا كانت الديمقراطية هي المشاركة السياسية، فالمواطن مشارك في قراره السياسي بطريقة أو أخرى. فالمواطن إما عامل في مهنة أو موظف عند الدولة، أما مهني أو حرفي فتقع مصالحه وتنظيمها كلها في دائرة نشاط الصنف، فالمواطن يمارس حقه بتقرير مصيره عبر الصنف واختياره قاداته وتقريره سياساته وتقاليده المتبعة. أما من هو من العاملين للدولة، ونستطيع القول بأن الأغلبية الساحقة منهم في تلك الحقبة هو من المنتسبين للجيش وقوات الأمن فالسلطة السياسة تملثهم وتسعى دوما لتحقيق مصالحهم لما في ذلك تثبيتا لدعائم وجودها.
وتطبيق تبعات مقولتنا هذه كثيرة بأمكاننا أن نأخذ مثالا واحدا منها؛ فنظرة متمعنة للنمط المعماري للمدن العربية يظهر ما نريد قوله هنا. فحين كانت عملية البناء تتم من خلال الموافقة بين صاحب الدار وأهل الحي وأهل الكار فإننا نجد بأن هناك تناسقا واضحا في النمط المعماري للمدينة العربية في الأقسام التي بنيت في مرحلة ما قبل الإستعمار. أما إذا انتقلنا إلى أقسام من هذه المدن التي بنيت في مرحلة الإستعمار أو مابعده فإننا نجد غياب للتناسق في النمط المعماري، كما نرى تغييب للقيم الإجتماعية والثقافية المحلية في النمط المعماري الجديد. فخلال هذه الحقبة كان قرارات البناء وانماطه تتخذ من "المندوب السامي" للمستعمر أو من قبل سلطة الإستقلال المركزية البعيدة عن الحل وحاجاته الحقيقية.
وخلاصة القول:
لم يكن القصد بأن نتغنى بأمجاد الماضي بقدر أن نوصل الفكرة بأن الأمور ليس أحادية الجانب. ونحن لا ندعي بأن مثال الصنف هو خير مثال يتبع في وقتنا المعاصر، بل الفكرة الرئيسة التي نبغ التأكيد عليها هو أن الديمقراطية كاجراء ضروري في الممارسة السياسية سيمكن المجتمع والفرد من انتاج تنظيماته وآليات تطوير مشاركاته بالقرار والمشروع الحضاري كما تمكن سابقا من ذلك.
ونحن أن لم نعارض الديمقراطية ودمقرطة العالم العربي والأسلامي، ولكن نريد أن ننبه بأن الديمقراطية ليست مشروعا حضاريا. وإن سعينا للدمقرطة لذاتها فإن سعينا سيكون سقفه ممارسات الغربي الرأسمالي، سواء بحسن نية أو بسوءها، ولكن ما نسعى لقوله بأن مجتمعاتنا على الصعيد النووي تحمل في جزورها امكانيات الأبداع، إننا لا نجد مدينة واحدة في الكون سقتها مؤسسة "مدنية" غير مدينة دمشق. ولو نظرنا في تاريخ حواضر الإسلام الكبرى لوجدنا أمثلة مشابهة لهذه التجربة.
في لحظة الوقوف على مفترق الطرق، عوضا على أن نقوم برفض جميع الطروحات، ماذا لوقبلنا جميع هذه الطروحات معا، ليس قبولنا لها عن طريق تبنينا لها، بل عن طريق إعادة الحصان إلى موقعه أمام العربة لا خلفها، أننا علينا أن نضع المواطن بيننا وبين كل هذه المشاريع، علينا أن نجعله المصفاة التي تمر بها هذه المشاريع كلها، والديمقراطية في الوضع الحالي تستطيع أن تؤمن هذا لنا. وأنا على ثقة كاملة بأن الحل الذي سينتجه المواطن في مجتمعاتنا سيفوق كل توقعاتنا. عندها فقط نستطيع أن نقول بأننا حولنا مجتمعاتنا لحاضنات أفكار قادرة على توليد مشاريع حضارية بعدد النجوم، وبالتالي قادرة على اختيار الأصلح لها وللإنسانية جمعاء، عندها نتكلم عن مشروعنا الحضاري، أما الكلام عن مشروع حضاري مأزوم أو مقتبس، أو كلاهما، والاعتقاد بأن السلطة هي صاحبة هذا المشروع فأنه سباحة ضد منطق الحركية التي تتميز بها مجتمعاتنا أصلا.
ولكن مشكلة التنظيم السياسي للسلطة ما زالت قائمة وضرورية في مجتمعاتنا. والديمقراطية كأجراء تضمن لنا إعادة تشكيل هذا التنظيم باقل تعقيد ممكن واصغر حدود فعل ومجال عمل ممكن للدولة وأوسع مجال فعل للمواطن، وبذلك نعري هذه السلطة من أي مشروع كان، ونضع المواطن في دفة القيادة بحيث يتمكن من أن يحمي نفسه من أي سلطة تسعى لفرض مشروع ما عليه مهما كان، ولكننا نعد المناخ المناسب لقيام سلطة متناسقة مع البنى المجتمعية للإنسان العربي وقادرة على أن تحمل ما يختاره من مشروع حضاري.
قد يعتقد البعض أن هذا يعارض الدعوى للاستقرار الضروري، وهو محق في هذا الاعتراض، ولكن هذه الطريقة المكلفة في بدايتها ستمكننا من طرح المشاريع الجديدة والقديمة بشكل مستمر على امتحان مصلحة المواطن العليا، وستدفع المواطن لتحمل مسؤولياته من جهة ونزيد من تسارع خبراته التي سيدفع ثمنها في حال تقصيره.
إننا علينا أن نثق بأن المواطن هو الحل والمرجع، وأننا إذا أخلصنا لمبادئنا فاختبارها مبادئنا الحقيقي هو قدرتها على تحقيق مصالح هذا المواطن، وأن مواطنا تحققت مصالحه فأنه سيموت في سبيل مبادئه. فالدمقرطة ليست مشروعا حضاريا، ولكنها اصبحت شرطا أصليا لإتاحة المناخ لولادة مشروع حضاري للأمة.
إذا. ونحن في سعينا وراء هذه الدمقراطية علينا أن لا نوهم الذات بأنها الحل السحري، ولكن علينا أيضا أن ندرك أن بدونها لا يمكن لمشرع الأمة أن يقف على قدميه. وأنه لكي نعيد خلق نظام حضاري يناسب قيمنا وثقافتنا فلا بد للعودة إلى المواطن كصاحب المرجعية التي تمنحه الديمقراطية الحرية والقدرة على العمل، وأن هذا المواطن عندها قادر على تشكيل النظام السياسي الذي يناسب الأمة ومشروعها الحضاري.
محي الدين قصار
اقتصادي وأكاديمي مقيم في شيكاغو