في الاقتصاد السوري: - 2 -
تتريك أو دولرة العملة في الشمال السوري
قدمنا في المقال الأول
أن الليرة السورية تتجه نحو أسوأ أيامها مع كل خطوة باتجاه الاستقرار على الصعيد
الأمني والسياسي ، ولا يبدو أن هناك حلا
لأزمة الليرة أو للأزمة الاقتصادية مع استمرار النظام. والمتابعين بشكل عملي أو
نظري للحالة الميدانية في السوق السورية يدركون تماما هذه الحقيقة. فيتم الحديث كثيرا عن تحويل التبادل النقدي في
المناطق المحررة الشمالية من الليرة السورية إلى الدولار أو إلى الليرة
التركية. بل أنه صدر حديثا عن بعض المؤتمرين
"توصية" بتبني الليرة التركية في هذه المناطق عوضا عن الليرة
السورية. بل ان الطرف صاحب
"التوصية" أعلن بأنه سيبدأ دفع رواتب موظفيه بالليرة التركية كخطوة أولى
لتطبيق هذا القرار. من هنا كان لا بد من
التفكر بمثل هذه القرارات ما لها وما عليها؟
"الدولرة" Dollarization
ليست مصطلح جديد فالكثير من الاقتصاديات ولا سيما في أمريكا اللاتينية، مارسته
بشكل مباشر او غير مباشر، فالدول تستعملها عادة لمواجهة حالة غياب استقرار الأسعار
الذي تطيح تقلباتها بالاستقرار الاقتصادي للبلاد.
في ظل الدولرة يقوم الناس
بالاحتفاظ بالإيداعات بالدولار الأمريكية ويصاحب هذا دولرةُ القطاع الحقيقي بحيث
يتم شراء وبيع البضائع ولا سيما مبيعات الجملة بالدولار ليصل الأمر لدفع الأجور
أيضا بالدولار او العملة الأجنبية المعتمدة.
الدولرة بدأت منذ فترة ولم تنتظر قرارا من أحد:
في الحالة السورية نستطيع أن نقول ان عملية الدولرة (نستعملها كمصطلح وممكن
ان تنطبق على عن كل العملات الصعبة) بدأت مع سقوط أول شهيد في سورية إن لم نقل مع أول
شهيد في تونس. فمن أخذ الوقت الضروري
لتفكيك معامل حلب ونقلها إلى مصر وتركيا من باب اولى له أن يكون قد نقل قبلها كل
مدخراته من العمله السورية إلى العملات الأخرى.
فمع اشتعال الثورة ازدادت عملية استعمال العملات الصعبة كأدات خزن القيمة
(ادخار) وبقيت العملة السورية وسيلة تداول في السوق وقلما استعملت للادخار. بل أن بعض المناطق المحررة في السنتين الأولى
من الثورة حاولت أن تستعمل الدولار في المبادلات السوقية ولكنها فشلت التجربة
لصعوبات كثيرة منها صعوبة الحصول على الوحدات الصغيرة من الدولار وعدم توفر القطع
المعدنية. وبالتالي كانت العودة لاليرة
السورية كوسيلة تبادل أمر طبيعي وتطبيقا لقانون غريشم "أن العملة الرديئة
تطرد العملية الجيدة من التداول،"
قبل اسبوع أتى قرار من مؤسسة في حلب
يقضي باستعمال الليرة التركية عوضا عن الليرة السورية في محاولة لـ"تتريك"
التداول النقدي في المناطق المحررة. وسواء
كان هذا القرار صائب ام خاطئ ولكنه بالتأكيد غير مُلم بأليات تطبيقه
ونتائجها. فمع غياب السلطة النقدية
السورية (مصرف مركزي للمناطق المحررة) يصبح مثل هذه القرارات لا معنئ له ولا قدرة
لأحد على تطبيقه. وهناك بعدان لهذا
الغياب: البعد الأول هو الغياب المؤسساتي
والثاني هو الغياب الشرعي.
المصرف المركزي والغياب المؤسساتي:
لا يوجد مؤسسة نقدية تقوم مقام البنك المركزي للمناطق المحررة. فما زال النظام يُعتبر المصدر "الشرعي"
بهذه القضية، ومازال المصرف المركزي في دمشق هو مصدر السلطة المالية للبلاد. وقد كان من المكن تحدي هذا الواقع لو استطاعت
الثورة وقياداتها أن تعيد توصيف الحالة السورية كحالة "احتلال أجنبي"
إيراني، ومابرحت أطالب بها منذ السنة الثانية للثورة لما لها من نتائج وتبعات على
كل المستويات وأحداها على مستوى الشرعية المالية للنظام. وبالتالي نحن نواجه حالة فريدة من نوعها. فالبلاد محتلة من قبل النظام الإيراني ووهم الاستقلال
يجعل الشرعية الدولية تعتبر أن الاستقلال مستمر بالوجود. فبالتالي يتمتع المحتل الإيراني بكل ميزات
المحتل بما فيها السيطرة على المصادر المالية للبلاد وإدارة القطاع المالي، ولكنه
لا يتحمل هذا المحتل أي مسؤولية عن عمليات الخراب والدمار الذي حل بالبلاد بما
فيها تقويض دعائم السلطة المالية.
البعد الثاني هو الغياب الشرعي:
فكما لا تملك الثورة والمناطق المحررة مؤسسة تعادل المصرف المركزي، فلا
يوجد مرجعية شرعية يعتمدها الجميع في هذه المناطق على انها صاحبة القرار في
السياسة المالية للمناطق المحررة؛ فالشرعية
تتطلب "اذعان" حول مؤسسة واحدة وهذا الأمر يتم عادة بتوافق الناس عليها
أو بقدرتها على فرض نفسها بسلطة او قوة ما على الناس. ففي حالة الغياب هذه "الشرعية" تصبح
جميع مثل هذه القرارات مجرد توصيات إن لم نقل انها أمنيات. فأول هذه المسائل التي تتعلق بمثل هذه القرارات
هو شرعية أصحاب القرار، ففي حالة سيادة
الدولة تتم فرض هذه القرارات باسم شرعية الدولة اما في حالة المناطق المحررة
فمازالت الخلافات حول قرارات أبسط من مثل هذا القرار لم تُحل فمن باب اولى أن لا
تجد عملية من هذا النوع اجماعا على التطبيق.
بل أن حل مشكلة الشرعية تصبح قضية استبدال العملة بعملة جديدة ثورية تحصيل
حاصل وعملية أبسط مما نتخيل. فالاجتماع هو
الذي يمنح الشرعية للقرارات وحتى لعملة سورية جديدة.
لا غنى عن المصرف المركزي التركي:
أما عقبات مثل هذه القرارات الإرتجالية فكثيرة ونذكر بعضها هنا. فالمسألة الأهم هي المسألة المالية
والاقتصادية، فالقرار المتخذ أن تتم عملية
استبدال الليرة السورية بالليرة التركية. فإن
تمت "التركنة" فمن أين يأت الناس بالليرة التركية؟ فالتركنة تقتضي بأن يتم سحب الليرة السورية
تدريجيا وضخ الليرة التركية عوضا عنها (حسب كلام اصحاب القرار)، فعلى افتراض أن البنك المركزي التركي موافق على
مثل هذه القرارات، فسيتحمل اعباء تغطية
مثل هذه الطلبات على الليرة التركية وزيادة عمليات ضخ الليرة التركية في السوق
وسحب الليرة السورية بنفس الوقت، في هذه
الحالة سيتحول المصرف المركزي التركي ليلعب دور المصرف المركزي للمناطق
المحررة. السؤال الذي سيطرحه المصرف
المركزي التركي أنه مالذي سيفعله بالليرات السورية المسحوبة والتي ستتدهور قيمتها
مع زيادة السحب وتزايد الهرب منها مع الطلب على الليرة التركية؟ على الاغلب هذه أمنيات للبعض مازالت بعيدة عن
التطبيق لأنها تحتاج لقرار سيادي تركي لم نسمع من الأتراك رأيا لهم بهذا بعد. بل لا يوجد شخص جاد على طرفي الحدود بين
البلدين يستطيع أن يقول أن قرارا مثل هذا من المصرف المركزي التركي هو من المصلحة
التركية. طبعا من الطرف الجنوبي للحدود لا خسائر تذكر
ستصيب السوريين لو أن المصرف المركزي التركي رضي بالتغطية الضرورية لمثل هذا
القرار (ونكرر هنا: لا مصلحة للتركي فيها).
النتيحة الوحيدة أن المناطق المحررة ستفقد استقلاليتها في اتخاذ قرارات نقدية
(وهي بكل الأحوال في يد المصرف المركزي للنظام اليوم) وستتحول معدلات ارتفاع
الأسعار في المناطق المحررة إلى نفس معدلاتها في تركيا (مع افتراض حرية مرور السلع بين البلدين) وفي هذه الحالة لاضرر منها على السوري لأن
معدلات ارتفاع الأسعار عنده أعلى بكثير منها في تركيا.
وجوه متفرقة للمشكلة:
وللمسألة وجوه كثيرة نذكر منها أن هؤلاء الذين أعلنوا هذه القرارت ومنها أن
معاشات موظفينهم سيتم دفعها بالليرة التركية. فالسؤال الأبسط كم وزن رواتب هذه المؤسسة مقارنة بحجم عرض
المال الموجود في الأقتصاد السوري،
فالسيولة النقدية الموجودة في 2010 حسب جبهة النقد الدولية تعادل 600 مليار
، فكم تبلغ نسبة رواتب هذه المؤسسة إلى
هذا الرقم؟ كما ان هناك مجموعة قضايا
شائكة تتعلق بهذا الأمر، فعلى سبيل المثال: من أين يأت رب العمل "بالليرة
التركية" إن كانت كل مبيعاته تتم بالليرة السورية؟ فهل سيتحمل رب العمل تحويل المبالغ من السوري
إلى التركي ام أنه سيتوقف عن البيع بالسوري وبهذه الحالة سيتحمل المستهلك تكاليف
التحويل من السوري للتركي. كل هذه الأسئلة
يجب الأجابة عليها في عملية تقييم مثل هذه القرارات، ولا نستطيع أن ندعي أن الأجابة عليها
مستحيلة، ولكن مع غياب المؤسساتية والشرعية
لسلطة نقدية تصبح الإجابة على مثل هذه الأسئلة صعبة، وقد تصف مثل هذه القرارات بالتخبطات
المبسِّطة مثلها مثل الكثير من القرارات التي تحاول ان تنظم المنطق المحررة دون
شرعنة حقيقية ودون منهج صحيح.
بكل الأحوال يمكننا أن نتابع بعضا من نتائج التتريك للنقد السوري في
المناطق المحررة الشمالية إن تمت كما يلي:
تطبيقا لقانون غريشم الذي يقضي "أن العملة الرديئة تطرد العملية
الجيدة من التداول،" فإذا توفرت
العملتان التركية والسورية في السوق دون أن تتم عمليات سحب منظمة للعملة السورية
فستتحول العملة التركية إلى عملة لخزن القيمة بينما يزداد تداول العملة
السورية. في الحقيقة هذا ما يتم منذ
اندلاع الثورة. بما معناه فإن المتداولين
سيعمدون إلى التخلص من العملة السورية وبالتالي تبق في السوق ما لم تُسحب من طرف
ما. السؤال هنا من جديد من الذي سيسحبها
من التداول؟ ونحن نرى في السوق السورية
حالة مشابهه لتطبيق هذا القانون إذا قارنا بين تداول الليرة السورية طباعة النمسا
والسورية طباعة روسيا. حيث يقوم المستخدم
قدر مستطاعه التخلص من الثانية ويحتفظ بالاولى.
خلاصة القول: باتأكيد
أن الحديث عن تتريك التداول النقدي في المناطق المحررة له أسبابه الحقيقة، ولكن يجب أن لا تكون هذه الأسباب هو اسقاط
النظام إقتصاديا. فمركز ثقل النظام لا
علاقة له بتحكمه بالليرة السورية، بل أن
اغلاق مطار دمشق له دورا يعادل أضعاف مضاعفة لأي قرار من هذه القرارات. ولكن بنفس الوقت يجب أن تكون هموم
"الاقتصاديين" الذين يتنطعون لمثل هذه القرارات هو استقرار المعاملات والحد
من أرتفاع الأسعار في الداخل بشكل كبير مما آذى الجميع على كل المستويات. فقرار التتريك أن استعمل بشكل حكيم ولقى القبول
الشرعي في السوق، واقول القبول الشرعي
الناتج عن تحقيق مصالح العامة؛ عندها
يمكننا أن نقول أن المعنيين هدفهم محاربة الغلاء المستشري.
محي الدين قصار
أكاديمي واقتصادي
شيكاغو 8 آب
2015
Mohyeddin.kassar@gmail.com
نشرت أيضا في الأيام