حزني عليه كان أكبر عندما تسلق سُلم الطائرة:
لا استطيع حتى أن اتخيل مشاعر والديّ الطيار الأردني
الذي أقامت الدولة الإسلامية به حد القصاص بعد أن اسقطت طائرته الحربية، ولكن استطيع أن أتخيل أن ألمي سيكون أكبر لو أنني
سمعت (لا سمح الله) أن أحد أحبتي يحمل على
كتفيه ثمانية آلاف من المتفجرات اللأكثر فتكا في تاريخ البشرية ليرميها على الناس
سواء كانوا مذنبين أم غير مذنبين. نعم إنني
أزعم أن ألمي من أن يقوم احدهم بمثل هذه الأعمال أو بمثل هذه الهجمات أكبر بكثير
من أن أسمع بموته ولو بهذه الطريقة البشعة.
وسواء عاد حيا أو سقط في يد من يقتص منه فإن روحه قد ماتت يوم ارتقى سلم طائرته
وهو واع لما يريد أن يفعل. إن الألم أن
تسمع موت روح من تحب وإنسانيته أكثر ألما من أن تسمع بموت جسده. لا يوجد كلمات عزاء كافية لأن تمنح قلب والدي
الطيار الشاب ومحبيه لحظة راحة واحدة. ولكن
العزاء الممكن الأوحد أن نجعل "معاذ" آخر من يفقد روحه وإنسانيته قبل أن
يموت.
لقد سافر الرسول صلى الله عليه وسلم يدعوا
إلى أهل الطائف إلى دين ينتصر فيه الضعيف من القوي والفقير من الغني وتحرر فيه
العبيد من عبوديتهم ويتساوى الجميع بإنسانيتهم.
فأرسلوا له ضعفائهم وفقرائهم وعبيدهم يرجمونه حتى أدميت قدماه الشريفتان وفجو
رأسه فسال الدم على وجهه الكريم. وهكذا عبر
التاريخ ينكرك أكثر من تسعى للدفاع عنه وتريد أن تنصره. فكان الوقت المناسب للإمتحان الإلهي الكبير؛
فأتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل ومعه ملك الجبال وقال للرسول عليه
الصلاة: "إن شئتَ أطبق عليهم الأخشبين (الجبلين)" فقال رسول الله معلنا
نجاحه بالامتحان الإلهي قائلا : " أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك
به شيئا "
لقد رسبنا بالامتحان وفي كل يوم تطير
الطائرات غدوة ورواحا فوق قرية الطيارة المفجوعة بابنها؛ وكلما اسمع ردات الفعل
على هذا المرور كلما أعرف أننا نُصّر على الفشل في الإمتحان. فأغنياء الطائف ومستكبريهم يريدون أن يقنعوا
عبيدهم أنهم ليس لهم علاقة بموت إنسانية طياريهم وبأنهم سيثأرون لهم بسحق أرواح المزيد
منهم وإنسانيتهم.
ولا أستطيع أن أتخيل مشاعر القلب الملثوم
العميقة التي منعت صاحب الدم من العفو عن الطيار.
ولكنني أستطيع أن أجزم بأن صاحب الثآر لم ينل راحة القلب الذي كان يأمل
بالحصول عليه بقصاصه. ومن لا يصدقني
فليتكلم مع من اقتص من غريمه، وليسأله فيما إذا كان القصاص كان راحة لنفسه
حقيقة.
الحرب التي نخوضها تطحننا جميعا قاتلين أم
مقتولين. فقد قُتلت إنسانيتنا يوم سكتنا
على الظلم واليوم تُقتل هذه الإنسانية يوم نمارس الثأر الرخيص. نعم لقد قال الله سبحانه وتعالى "{178} وَلَكُمْ
فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ {179}
والآية يمكن أن تفهم على أنها تأكيد على القصاص، وفي ذلك حق، ولكن ممكن أن يفهم منها أيضا أن لحظة القصاص هي
فرصة ذهبية لمنح الحياة. المعنيان قائمان،
وتحقيق المناط في محل الحكم لا يتم فيه تعميم بل يكون حالة بحالة حيث صاحب القرار
فيها هو صاحب الدم. وإن كان أهل الطيار
ينظرون أن ابنهم قُتل عدوانا فلقد جعل الله لهم سبيلا. ولكن علّهم يذكرون أن ادعاءات الثأر لا تطال من قتل ابنهم وحده
بل على الأغلب أنها ستطال كل الأبرياء دون القاتل، فهل يذكرون قوله تعالى : {32} وَلاَ تَقْتُلُواْ
النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ
جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً
{33} فإن كان جسد معاذ حُرق مظلوما فأيهم أولى بالنصر لوليه: الله أم طائرات
الحلفاء. إنها فرصة ذهبية لعلنا نلامس
إنسانيتنا من جديد. ولعلها تكون لمعاذ مغفرة ورحمة في قبره.
أعان الله
أهلنا المفجوعين بمعاذ وأهلنا المفجوعين بموت انسانيته وإنسانية أمثاله.
No comments:
Post a Comment