في أغلب بلاد العالم جهات تقوم على قراءة المواقف الأمريكية واستشعارها من خلال تصريحاتها وأعمالها، وتنشئ تفاهمات مع المسؤولين الأمريكيين، ويسمعوا همه ثم يعودون كل منهم إلى مؤسسات قراره السياسي وراسمي استراتيجاته ليحاولوا التنسيق بين خططهم المستقبلية وافعالهم ومرادت السياسة الأمريكية فيما يمكن التوافق بينهم. فبقدر ما تملك الدولة استقلالية قراراتها السياسية بقدر ما تتمكن من صياغة خططها بأقل الانزعاج من القادم الأمريكي. عادة هذه التغيرات السياسية ولا سيما إن كانت تشكل ابتعادا عن السياسة الأمريكية ، تتم بليونة عالية لكي لا يتم احراج كلا الطرفان المحلي والامريكي.
وحدها اسبانية خرجت عن هذا الاسلوب بعد تفجيرات مدريد المنسوبة إلى القاعدة، إذ تمكنت القاعدة وبعملية لم تتجاوز كلفتها ثمانين ألف دولار من اسقاط الحكم اليميني في مدريد وصعود الجناح اليساري المعتدل الذي سرعان ما شكل حالة انفصال عن سياسات الأمريكية فانسحب من العراق وافغانستان، وابتعدت اسبانيا بهذا كليا وعلنيا عن مصائر السياسة الأمريكية.
من طرف آخر من المشهد وحده العالم العربي التعامل معه استثنائي من قبل السياسة الأمريكية، فالسياسي العربي يتلقى الأوامر مباشرة من السياسي الأمريكي دون مواربة صريحة وواضحة. ولكن لا يكفي للسياسي العربي أن تشرح له ما تريده ان يفعله، فلا بد أن تصدر له أمرا بالتنفيذ خطوة خطوة بكل الحيثيات، ومع هذا تجد السياسي العربي يستمع وهو يفكر كيف يجني من تنفيذ هذه الأوامر الأرباح، ولا اقول الأرباح للبلاد بل الأرباح له ولعائلته ومقربيه؛ بعيدا عن الأهداف التي تريد أن تحققها الأوامر الأمريكية. ففي 2009 كتب السفير الأمريكي في تونس و في رسالة إلى الخاجية الأمريكية (ويكيليكس) في قضايا الإنفاق المخيفة التي تمارسها عائلة بن علي قائلا: "إن هؤلاء (بن علي والطرابلسية) لا يستمعون لأصدقائهم لا بصيغة نصائح ولا بصيغة أوامر وتهديدات." طبعا لا من أولويات الخارجية الأمريكية ولا أولويات السياسة الأمريكية تحقيق مصالح العرب، (وإنا أزعم أن هناك الكثير من اصدقائنا ولكنهم أفرادا لم يشكلوا يوما كما يعتد به. ) ولكن ما يهم السياسة الأمريكية هي التعامل مع العالم العربي وإراحته بما يكفي لتجنب الإنفجار لا أكثر ولا أقل.
لذلك فالسياسة الأمريكية كلما تمر بمنعطف مهم كلما احتاج العالم العربي لخطاب جديد، فرأينا أوباما يطير إلى القاهرة ويبهدل العرب، واليوم يطير وزير الخارجية ويمارس نفس الأسلوب في المراجل الصريحة على زعامات عربية كانوت قبل أسابيع تقبل حذاء موظف من الدرجة الثالثة في الخارجية الأمريكية في نيويورك وواشنطن أو في تكساس على ايام بوش. إن هذه التقاليد عبارة عن الحظة الأخيرة التي تمنحها السياسة الأمريكية للحكام المحليين، فهي سياسة علنية مطروحة على الجميع لا لبس فيها ولا غموض. وهو اعلان عن مزاد علني للحكام المحليين ولكل الصف الأول والثاني من قاداتهم الأمنية والعسكرية. بهذه الطريقة تتمكن السياسة الأمريكية من استجرار "العروض" لأكثر العناصر التزاما بالمطالب الأمريكية خلال السنوات السبع القادمات ولاسيما تلك التي تستطيع أن تفرض توازنا داخليا يمكن تجنب لحظات إنفجار براكين الغضب.
بعد الزيارات الفاشلة لواشنطن خلال تسع اشهر الماضيات لم يستطيع حكام العالم العربي أن يثبتوا أنهم تعلموا الدرس من ثورات الخريف العربي، فكل ما اعتقد أصحاب الخليج هو أنهم بدعسهم على المبادئ الإسلامية سيكسبوا ود الأمريكان. أما مصر فقد أنفقت كل أرصدتها ولم يبق لها سوى رصيد الأمن الإسرائيلي، وهؤلاء غير مقتنعين أن السيسي سيتمكن من تأمين هذه الحماية لهم؛ حتى العامل الإقتصادي لم يبق لمصر أي قدرة شرائية قد تطمع الشركات الأمريكية بالاستفادة منها. فلم يبق هناك ما يمكن به من شراء السخط العام، ولم يعد هناك ما يمكّن من تأمين الحد الأدنى للحياة والبقاء مع خط الفقر. وفي عالم لا سرية فيه يتحول العالم العربي إلى بركان يحاول الأمريكان اخضاعه ويطمحون أن يكون لهم مندوبون ساميون لا يحملون المناشير الآلية ولا يتناوبون في تفجيراتهم بين الكنيسة والمسجد، فلم يعد يستسيغ أحد تلك الألعاب المخابراتية. وهو يريدون هذا لا حبا بنا بل حبا بمصالح الأمريكان.
No comments:
Post a Comment