من بين جميع الأقسام في المؤسسات والشركات هناك قسمان يختلفان بطبيعتهما اختلافا
شديدا. القسم الأول هو قسم "البحث والتصميم"
(وقد يكون الإنتاج او ما شابه) والقسم الثاني هو قسم التسويق والإعلام. فإن دخلت قسم التسويق تجد الألوان واللوحات
الزاهية والديكور المزركش حتى ما يصدر عنه تجده جذابا للناس بألوانه واصواته
استجابة لرغباتهم. بينما من يدخل قسم "البحث
والتصميم" يجد الرصانة والرتابة والجدة إلى حد الملل مقارنة مع قسم التسويق.
في القسم البحث نتكلم عن الـ"مصمم" للفكرة أو عن الكعكة؛ وفي قسم التسويق
نتكلم عن الـ"مُسوّق" للفكرة أو عن زينتها؛ وأحيانا يختلط على حديثي العهد بهذه البيئة
وهذا التمايز فلا يدركون الفرق بين الكعكة وزينتها. والشركات التي لا تستطيع أن تميز بينهما فتقع ضحية
أحد الحالتين فإما عندها منتجات مصممة بشكل جيد ومفيد ولكن لا يشتريها الكثيرون،
أو عندها مشتريات كثيرة ولكن غير مفيدة ولا تصل إلى مستوى الالتزام التي وعدت بها
الزبائن.
كل الأمور الأخرى ولاسيما الدين والسياسة (غرضنا من المقال اليوم) تحمل نفس
التقسيم بين التصميم والتسويق. فهناك اقسام التصميم التي تسهر على البحث المرجعي
والتحليل القيمي والمعرفي لتقدم حلولا فتختبرها وعند ثبات نجاعتها للمجتمع ترسلها
لأقسام التسويق والدعاية. في مجتمعاتنا يكاد
يختفي هذا التمايز بين القسمين ، فلا نستطيع
أن نذكر تاريخ آخر مرة اصدرت جماعة أو حزبا سياسيا كتابا أو حتى بحثا أو وثيقة
تاريخية مبنية على دراسة معمقة للوضع في مجتمعاتها، بل أننا عندما نجد أن احزابا
سياسية وهيئات تتشكل في عتم الليل وتضمحل مع آخر معونة تصلها ندرك أن كل هذا يأتي
في أقسام التسويق. وأن هذا لن يستمر ولن ينفع الناس. وكذلك عندما نجد علما ومعرفة ولكنها مبتذلة في
إرضاء اقسام التسويق تعلم أن هذا لن ينفع الناس. ولو نظرنا في العشرين سنة
الماضيات في سوريا لما وجدنا عملا سياسيا واحدا من انتاج "قسم البحث
والتصميم" وإن تم هناك إنتاجا فهو انتاجِ سجن غبار المكتبة، لم يلق ما يحتاجه
من اختبار تطبيقه ومرجعيته في المجتمع. وإن أردنا الاشتطاط بالمثال نستطيع اعتبار
أن "اعلان دمشق" قد يكون مثالا وبتصرف وعلى علاته على نتيجة "قسم
التصميم،" ولكن بكل أسف لم تستطع "أقسام
التسويق" السورية كلها أن تحوله لشيئ ما في ضمير المجتمع. بل اكاد أجزم أن العديد من حملة هذه الوثيقة لم
يدركوا معانيها، وخلطوا بين التسويق لأنفسهم وبين التسويق للاعلان. الحكم نفسه نصدره على وثائقا سسياسة أخرى مثل
بعض ما صدر عن حزب العمل وأضرابه وجماعة الإخوان المسلمين. بل المأساة فيها ليس فقط خلطهم بين التصميم
والتسويق بل أن التسويق – وهو ما به بارعين – اصبح على أيديهم ليس تسويقا للتصميم،
بل اصبح تسويقا لاستمرار هيمنة قيادات تاريخية مازالت تعيش في القرن التاسع عشر
وطواحينه. (اليوم لن أتكلم عن الصنف
الثالث، فهو لامسوق ولا مصمم، بل من صنعه التمويل الغريب غير الشريف)
أما في الدين فالمصيبة أكبر، فكيف
تُعلّم هذا الإمام الذي يرتقي المنبر كل يوم جمعة - بكل حسن نية وتقى - بأن ما
يفعله على المنبر ما هو إلا تسويقا وليس تصميما؟ فمن المهم تعلميه أن يميز في انكبابه على كُتب التراث بأن
ما كتبه فلان في القرن العشرطش في القضية
الفلانية قد كان كَتَبَهُ كـ"مُسوّق"؛
وأن ما كتبه فلان في القضية العلانية فقد كَتَبَه كـ"مصمم." وكثيرا من الأحيان يقف العالم في مسألة مسوقا
وفي مسألة أخرى مصمما. ولكن مع بعد الزمن،
واختلاف الحال ، يزيغ البصر وتختفي التفاصيل المهمة من المسائل، ويختلط الأمر بين
المسوق والمصم. وفي فقهنا الكثير من
الأمثلة من علماء الأمة وكيف أن أحكاما عامة لم تجد موقعا عند الإمام عندما يتحدث
عن حالة خاصة. أكثرها شيوعا هو مثال الإمام
ابن تيمية وحكمه في بيع الخمر لجنود التتار في معسكراتهم لكي لا ينزلوا إلى دمشق
ويسكروا فيها.
ونحن هنا لا نقول أن يتنطع القاصي والداني لمثل هذه القضايا بل العكس
تماما، فعلى جماعة التسويق أن لا يتبنوا شيئا من هذا ما لم يكن له مصمما يقف خلفه
ويعلم أبعاده ونتائجه. ولكن ما نقول بأن فصاحة البيان وحسن الإلقاء لا تعفي الخطيب
من الالتزام بغرز المُصمِّم. فالخطابة ما
هي إلا أداة تسويق ومهما برع أحدهم بها فلا تعني اعفائه من رؤية مآلات الخطاب
ونتائجه. فالعبرة في الأحكام في
مآلاتها.
وكثير من معاني هذه المقالة لا تغيب عن الكثيرين، ولكن مع حالة وسائل التواصل الإجتماعي هذه
الإيام علينا إدراك الفرق الكبير بين المسوق والمصصم. فمع الفيسبوك وأضرابها أصبح الجميع "صاحب
منبر." فلا يمكن أن يفوتك منبرا هذه
الأيام مهما تحريت الصدق. فلذلك على
الناشر أو الخطيب أن يدرك هل هو مُسوّق في منشوره أم مُصمّم لكي لا تصيبه آثام
كلمته، وعلى القارئ أيضا مسؤولية التخير فيما يقرأه، فهل ما يقرأ يتلقاه من مُسوّقٍ
ام من مصممٍ. والمصيبة في وسائل التواصل اليوم أنها تجعل الكلمة "أبدية"
فما خطبه أبو سعيد الدباغ رحمه الله في غرة رمضان عام 919 للهجرة في بغداد لم يسمع
بها احد سواء أنكرنا مضمونها أم كان مضمونها سينقذ البشرية. أما ما
يُكتب ويُتداول اليوم فيصل إلى صقاع الأرض كلها في لمحة بصر وسيبق إلى يوم
القيمة. والأخطر من هذا أن من سمع للدباغ
قبل ستة مئة سنة سمعها ووعيها ضمن المعطى التاريخي والثقافي في تلك اللحظة. ولكن أين لنا أن ندرك هذا عندما تلق الكلمات
جزافا كما نراها اليوم في عالم السياسي أو الدين العربي هذه الأيام. فأحيانا لا
أمل لنا إلا أن تتلقى هذه الكلاما جزافا كما ألقيت جزافا.
محي الدين قصار
شيكاغو 7 تموز 2017
mohyeddin.kassar@gmail.com
No comments:
Post a Comment