Monday, July 10, 2017

في ذكرى الإنقلاب: مازال الهجوم مستمرا.

سوريالية الحدث والإشارات:
كنت قد وصلت إلى استنبول حوالي 30 ساعة قبل محاولة الإنقلاب المشؤومة التي بائت ولله الحمد بالفشل الكبير.  ولم تكن هذه المحاولة مفاجئة لأي مُطّلع على مسار السياسة الأمريكية وخياراتها التي يطرحها النظام الأمريكي على الصعيد العالمي، وقد أجرت معي محطة "القناة" مقابلة تلفزيونية على مدار الساعة حول الإنقلاب التركي. في الحقيقة لا اعرف كيف علمت "القناة" بوجودي في استبول أم أنها مجرد صدفة أو أحد الأصدقاء أعلمهم عن وصولي الله اعلم؛ وكنت قد اطمئنتُ نوعا ما لأنها "تميل للديمقراطية وشرعيتها في مصر."  ومما قلت في بداية المقابلة: "من قام بالإنقلاب يريد أن ينقل شرخ الصراع الغربي الإسلامي إلى استنبول،  فقد كان هذا الشرخ قد قفز من افغانستان إلى العراق، ومن ثم تصدع طرفه لينتقل إلى سورية، ولو نجح هذا الإنقلاب لأصبحت استنبول في قلب المواجهة الإمريكية مع الإسلام.
طبعا في المقابلات الناجحة عادة تحتاج أن تُلقِ فكرة جديدة ليتلقفها المذيع النبيه ويجعلها المحور الخفي للنقاش، لكي يتمكن من اشباع فضول المستمعين، فيصل بنقاشه مع صاحب الفكرة إلى تفنيد فكرته أو اثباتها عند المستمعين.  ولكن مقدم البرنامج ابتعد في نقاشه كل البعد عن الفكرة، فلا نعلم فيما إذا كان هذا قلة خبرة عنده أم قدرة الممول للقناة على فرض أجندته الخاصة.  هذه المقابلة كانت على الهواء ولكنني لم أعثر على نسخة منها رغم وعد المخرج بإرسالها لي.
ولا يحتاج أي من الناس أن يثبت أن بعض أعمدة النظام الإمريكي كانوا وراء الإنقلاب؛ فهذه مسأله لا ينتطح فيها عنزان.  بل أن حتى وزير خارجيتهم "كيري" يوم السبت صباحا (12 ساعة بعد الإعلان عنه) صرح ملقيا الملامة على "غباء المخططين" ومهاجما إياهم على فشلههم ولم يهاجمهم على الإنقالب بذاته أو غياب شرعيته أوكونه مشروع جريمة.   
 وقد شهدتُ كما شهد العالم معي "الأعراس" والنشاطات التي اجتاحت تركيا بعد فشل الإنقلاب طوال صيف 2016.  ورأينا كيف رابط التركي  في شوارع استنبول ليلا و نهارا  في مراكز البلد لكي لا تتمكن مرتزقة الدولة العميقة من اعادة السيطرة من جديد.  وقد حدث أن كنت ذلك الإسبوع في محطة المترو،  وهذه عادة عندي إذ احب دوما أن أتنقل في النقل العام أينما ذهبت، فالنقل العام يسمح لي بالاحتكاك مع أكبر عدد من الناس. وقد كنت أنتظر "المترو" وأنا أقرأ خريطة القطارات مما قد يشير للبعض أنني غريب.  اقترب مني شاب تركي في العشرينات من عمره نحيل قصير وضعيف قد لا يتجاوز وزنه 45 كغم،  وتكلم معي، فأجبته بالانجليزية أو بالعربية،  فطفق يتكلم بانجليزية مكسرة،  ومما قاله: "ان أردغان مثله مثل نبيه محمد، كلاهما يحبان ان يناما مع البنات الصغار ذات اربع سنوات واغتصابهن"؛ وأن أردغان عنده جيش من "الأولاد للإغتصاب"  وأنه (الشاب) وجد المخلّص في الأبن عيسى المسيح إلخ ... وجدت فجأة في نفسي غضب شديد وفكرتُ جادا بالبطش به هناك على رصيف القطار حيث لم يكن إلا بضع أشخاص متفرقين في المحطة الطويلة. فأن لا يحب رئيس بلده هو حر، أما ان يتهم الرسول صلى الله عليه وسلم باغتصاب الأطفال فهذه قضية أخرى. ولكن بدأت أنظر له وأحلل الموقف؛  دعوني اسمي هذا الشاب "كاييب"  فالموقف عبثي وغير راشد وانا أبحث له عن تحليل راشد،  فلعل هذا الشاب أحمق أو مجنون أولعله مخابرات تركية أو أمريكية  تحاول أحداهما أن ترى ردة فعلي، ورسمت سيناريوهات كثيرة لا طعمة لها شغلتني عن إلقائه تحت عجلات القطار. 
وصل القطار وصعدنا به؛ فكان في القطار جمهور من الشباب المتوجه إلى ميادين الإعتصامات يحملون الأعلام التركية ويتكلمون بنوع من الفرح الصاخب.  طلبت من أحدهم أن يعطيني علما فقدمه لي،  وقال "أنسى الإنجليزي وتعلم التركي،" قلت "إن شا الله وسأعلق العلم في بيتي في شيكاغو."  نظرت بطرف عيني لارى "كاييب" كان قد ذهب إلى آخر القاطرة التي كنا فيها وحاول أن يشغل أصغر مساحة من المكان ليختفي عن أعين الجميع قدر إمكانه.  ولكنه بقي مراقِبا لي وما سأفعله.  فارسلت له نظرة عندما التقت عينانا تقول:  "هل أقول لهؤلاء ماذا قلت عن نبيهم؟"    بدى لي الوضع يومها من الأوضاع السريالية التي لم تحصل عند اي فنان بعد.  فالشاب "كاييب" حاله كحال النخب المتغربة المنثورة عبر العالم الإسلامي من شرقه إلى غربه. وكلما ظنت هذه النخب أننها ستصل إلى فرض نفوذها على المجتمعات الإسلامية بعمالتها للغرب كلما بائت بالفشل وباعها الغرب لطاغية جديد يستعبدها.  فهي كالمستجير من الرمضاء  بالنار. والقناة التلفزيونية التي تصدح بنداءات الديمقراطية في قطر من الأقطار  نجدها ممولة من الدولة التي تقوم بالإنقلاب على آخر معقل من معاقل الحرية في الشرق الأوسط والعالم الإسلامي.  فالإشارات التي نقرأها اليوم تكاد تجعل المرء يردد " لم أعد أفهم شيئاً يا بني" من قصيدة "مرسوم بإقالة خالد بن الوليد" لشاعر دمشق نزار قباني رحمه الله.   

كيف يفكر من وراء الانقلاب:

من يعتقد بأن المشروع فشل وانتهى فهو حالم،  فالفاعل الحقيقي للإنقلاب يعلم - وقبل الانقلاب - أن هناك ثلاثة مخارج أو نتائج لهذا الحدث (ان يفشل الانقلاب ؛ أن ينجح بشكل كامل ؛ أو أن ينجح نصف النجاح) 

الأول وهو أن يفشل الإنقلاب (قاصمة وعاصمة)  
ففي هذه الحالة ستتجه الأمور إلى تشديد قبضة الدولة التركية على الحكم واندفاعها نحو الطرف الآخر من الشدة،  وبذلك تفشل تجربة الحرية في المجتمعات الإسلامية وتفقد النموذج الوحيد الناجح،  فمع تشدد الحكم الذي سيكون قد بُعِث من جديد بعد الإنقلاب ستُصاب قيادات هذا الحكم بالعزلة الدولية والإقتصادية،  وسيُدفعون دفعا إلى مواقف متطرفة من الداخل ومن الخارج شبيهة بمواقف دول الممانعة المنفصلة عن جماهيرها، وبالتالي سيسهل ترك القيادة التركية لكي تواجه العداء للغرب أمام جماهيرها بينما تتم استجرار تنازلاتها بسبب ضعفها وضعف ارتباطها بجماهيرها.   لذلك يوم الإنقلاب نشرتُ كاتبا: "يستطيع الطيب أردغان أن يتحول إلى محور وحدة وطنية وقاعدة لزيادة التفاف الشعب التركي حوله" وبالفعل أندفعت الدولة التركية محقة في هذا الإتجاه، وسرعان ما عدّلَت حدة هذا التوجه بعد أن وضح الفاعل الحقيقي وراء الانقلاب وبعد أن ترسخت القواعد الحاكمة من جديد، والأهم من هذا بعد أن أثبتت المعارضة التركية (أو اغلبها) مستوى عال من الوعي الوطني والحس السياسي والشعور بالمسؤولية أمام عواصف المنطقة.  لذلك نستطيع أن نقول أن الأزمة التي تُدفع لها تركيا من هذا الباب قد سُيطر عليها وبقي هناك اذناب الغرب من أشباه الشاب "كاييب" من الشخصيات المعارضة أو الهيئات المعارضة؛ ولكن قلمت مخالبهم وانتكسوا وفقدوا الكثير من مصداقيتهم صباح استيقظوا على خبر الإنقلاب. 

الإحتمال الثاني أن ينجح الإنقلاب (قاصمة لاعاصمة لها)  
كنت أجول في شوارع استنبول على مدار اسابيع ما بعد الـ"الضربة" (كما يسمونها الأتراك) واشاهد مئات الألوف من الشباب الإسلامي الذي يملأ الساحات واسأل النفس: "ماذا لو نجح الإنقلاب مالذي كان هؤلاء سيفعلون؟"  هذا السؤال ليس بالعبثي ؛ فالجواب عليه هو مبتغى من كان وراء الانقلاب،  وسواء نجح الإنقلاب بالكامل أو نصف - نصف فالنتائج كلها تتلخص على المستوى الاستراتيجي بعبارتي : "نقل شرخ الصراع الغربي الإسلامي إلى استنبول"  أو نقل خط المواجهة بين الغرب والعالم الإسلامي إلى استنبول.  فإن كان فشل الإنقلاب يحمل في طياته مخاطر تصلب القيادة التركية وانزلاقها في فخ الفصام مع مجتمعها؛  فإن نجاح الإنقلاب سيؤدي إلى تصلب هذه الجماهير التي ملأت سماء تركية ستة أشهر بحراك رفض الانقلاب.  وإن كان الانقلاب التركي الناجح الأخير أنتج ما يقارب 625 ألف سجين سياسي؛ فكم من الشباب التركي سواء في صفوف الإسلام السياسي أو غيره سيدفع ثمن نجاح هذا الإنقلاب؟  والإجابة علئ هذا السؤال لا تحتاج للكثير من المعطيات،  فقد كنت كلما شهدت أحد مهرجانات "الفاتح" بعد الإنقلاب أتخيل كل هؤلاء الشباب وقد دفعتهم حماقة الإنقلابين  وخيانتهم  إلى إعلان اليأس من "حلول وسط" مع الحداثة الغربية.  وسيجد الانقلابيون في سوريا وكردستان مصدران لمعارك الالهاء للداخل التركي، فمن طرف سيكون ترحيل اللاجئين السوريين (والعراقيين بالتالي)  طاحونة هواء يُثار الرأي العام حولها.  ومن طرف آخر ستُقدَّم الطاحونة الثانية بصورة "القضاء على الخطر الكوردي."  في الأولى سيكون حاضنها الشعبي مرتكز في العلويين الأتراك؛ بينما تضمن القوى القومجية التركية احتضان الطاحونة الثانية بما هو معروف من عداءها مع الكورد.  وخلال هذه الفترة سيعاد تموضع البنك الدولي وجبهة النقد الدولية في مراكز القرار التركي، الرابط الذي فك غرزه بهدوء وتروي حزب العدالة والبناء على مدار 15 سنة فسيعود الإنقالب ليرهن مقدرات التجربة الناجحة الوحيدة في العالم الإسلامي لمن لايريد لهذا العالم أي خير.

من أجل تلك القاصمة جدع قصير انفه:
لا يحتاج القارئ أن يملك خيالا جامحا لتخيل ما كان يدور في أروقة القرار الأمريكي خلال التحضير للانقلاب من نقاشات.  فهذه النتائج للانقلابات ليس من الصعب التنبؤ بها ـ بل على بساطتها تكاد تعكس "التيار الرئيس" في تحليل الإنقلاب وتبريره. ولكننا نستطيع أن نسأل هل طرحت قضية التطرف الذي سيصيب الشباب التركي؟  وهل هؤلاء الذين كنا نراهم في الفاتح والتقسيم و.و.. وسيدفعهم الإنقلاب ونجاحه لحضن الإسلام الجهادي؟  ويمكننا أن نتخيل أن الذين فنّدوا هذه النقطة في تلك النقاشات والاجتماعات الاستراتيجية اعتمدوا على ردات الفعل عند اخوان المسلمين بعد الانقالب على زعيمهم المصري. ولكن من راقب هذه النقاشات بدقة يعلم أن من صرخ لا تخافوا فلن يتطرف الأتراك، وهؤلاء المفندين لموضوع "الإسلام الجهادي" هم أولئك المستثمرون في "مُجَمّعات الصناعات الإمنية" في أمريكا وأصحاب "الفوضى الخلاقة"  والمدافعون الأشد عن أنظمة الفساد الأسدي والمالكي والعبادي وآيات الفرس في قم وغيرهم من طغات العالم الإسلامي؛  فكما ادعى مهندسو غزو العراق أن العراق يستحق أفضل من صدام ولا يستحق جيشا كجيش العراق، فالغوا الجيش وخوّلوا دوره لمرتزقة السوق الأمريكية،  واستأجروا المجرم الإيراني ليقوم بمهمات الجيش العراقي. فالجيش العراقي لا يدر ثراء عليهم، ولكن البديل الذي أحلوه مكانه ما هو إلى أجير بالفُتات مقابل السلطة والقدرة التي يخولونها لأنفسهم. وكذلك اليوم كلما ارتفع صوت "عاقل" لتحذر من نتائج السياسة الأمريكية وأدواتها مثل هذا الانقلاب كلما ارتفعت عقيرة الكثيرين لتقول: "لا تخافوا الأمور تحت السيطرة.  وإذا حصل الخراب فإننا سنعيد بناءها بشكل أفضل ولكم حصة كبيرة من الكعكة."   لقد نجحوا بهذا في العراق ومصر، ومازالوا يسعون لتحقيقه في تركيا وكوردستان.  وخزان القوة الكامن في هذين المجتمعين يجعل من حروب العراق ألعابا نارية مقارنة ما قد يحدث فيهما لو لم يفشل الإنقلاب. 

عواصم من قواصم ممكنة:
مرت سنة على فشل الإنقلاب ولكن أصحابه لم يستكينوا بعد ومازالوا يشحذون سيوفهم ليوم آخر،  ومحاولات عزل تركيا عن الساحة الدولية والإسلامية ستستمر ولن تهدأ. فمن شوارع واشنطن-العاصمة إلى دوسلدورف  ومن فنادق الإمارات إلى أقبية قم ومن دهاليز المجموعة الإوربية إلى دهاليز الأمم المتحدة؛ ستستمر المؤامرة ولن تتوقف إلى أن تُردع ردعا، والحق وحده هو سلاح الردع الحقيقي،  فالحق والعدل هو عماد القوة، وبه يتم التحام القيادات مع شعوبها. وقد يكون هذا الالتحام هو الأقوى أن كان الطرف فيه الشعوب الحرة، وأعتقد أن الشعب التركي بلغ من النضج وتذوق الحرية ما يؤهله ليكون قاعدة هذا الإلتحام وعلى أحرار سوريا والعالم العربي أن يدركوا أهمية الصمود التركي في مواجهة العالم في القرن الواحد والعشرين.  فكيف تتعامل هذ القيادات مع من هم على شاكلة الشاب "كاييب" مهم جدا،  فلابد من إدراك ان الحق يعلو وأن الباطل زهوقا بطبعه،  فالاحتضان مهم وأن لم ينفع معه فلابد من العزل الإجتماعي دون افراط ولا تفريط.   ولابد ممن يشكل الرأي العام أو يحاول صياغته كقنوات الإعلام المتمولة من الغرب أن يدركوا أن تمويلهم لايكون بريئا دوما. فالآخر كالشيطان قد يصدقك وهو كذوب.  كما أنه على المجاهدين ادراك دورهم الحقيقي في هذه المواجهة. فالأحلام هو أمل من الله سبحانه وتعالى ووعده الذي يتحقق،  أما الأوهام فهي التي يبني عليها العدو مجده.  وبعد سنة نقول للقيادة التركية أنك صمام الأمام بحكمتك وليس بوجدك وحده،  فإن الخلط بينهما سينشأ الوهم بأن الوجود هو الهدف وسنعود لمقولة القيادة البعثية النصيرية عام 1967 لقد خسرنا الأرض ولكن انتصرت الثورة.   

محي الدين قصار
شيكاغو 7/7/2017 


No comments: