Wednesday, April 03, 2013

حين يصبح "حق العمل"وسيلة استغلال العامل

هذا المقال سبق ونشر في اليوصلة   العدد 10 شباط 2007:  وأعتقد مازال فيه فائدة 

 حين يصبح "حق العمل"وسيلة استغلال العامل
أقر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان حقوق الإنسان المدنية والسياسية، أما حقوق الإنسان الإقتصادية فهناك اتفاقا دوليا منذ الستينات من القرن المنصرم حول مجموعة الحقوق الإقتصادية والثقافية والإجتماعية وأهمها حق "العمل". وتنص المادة 36 من الدستور السوري على أن "العمل حق لكل مواطن".
السؤال الذي نطرحه هنا هو عن أي "عمل" يتكلم هذا الحق من حقوق الإنسان. فمعظم دساتير بلدان العالم ولاسيما بلدان العالم الثالث تغنت بإضافة هذا الحق لنصوصها، فما هو العمل الذي هو حق للمواطن. فعلينا أن نميز بين قضيتين فيما يتعلق بحق العمل، فهل "حق العمل" مطلوب لذاته أم أن حق العمل مطلوب لما يترتب عنه من اكتفاء ذاتي وتحقيق لعيش كريم مستقل عن عوز الآخرين؟ فإن كان حق العمل مطلوبا لذاته فإن أي نقاش في "طبيعة العمل" بذاته لاطائل منها وكان يكفي أن يُشغَل المواطن بأي عمل ليعتبر أنه تمتع بهذا الحق، فأعمال السخرة التي تمارس في هذه البلاد كثيرة ولا يعقل أن يعتبر أحد من الناس أن السخرة تحقق "التمتع" بهذا الحق. والأنظمة التي نظرت لهذا الحق على أنه حقا عدديا يتحقق بالإنشغال الزمني، نراها تكدس في مؤسساتها "البطالة المقنعة" بأعداد كبيرة جعلت من اصحاب البطالة المقنعة تتجاوز عدديا العاملين الحقيقيين.
فحين يمارس العامل حقه بالعمل، يُجبَر على أن يقتسم مع زملاءه في "البطالة المقنعة" ثمار عمله. فتدعي هذه الدول أنها أمنت للإنسان حق العمل. ولكن في حقيقة الواقع، اقامت آلية إستغلال مطلق، إذ تتحول ممارسة العامل لحقه في العمل إلى وسيلة تمويل لعدد من العاطلين عن العمل يشاركونه وجودهم في معمله. ولم تكتف بذلك ولكنها حولت ممارسة حق العمل لأداة لقمع الطبقة العاملة نفسها، فأزاحت عن كاهلها عبئ ثورة العاطلين عن العمل من جهة، وسترت معايبها في سوء استغلالها لكفاءات رأس المال.
الوجه الثاني للقضية أن يكون حق العمل مطلوب لغيره. فالعمل حق من حقوق المواطن لأنه يحمل وجهين لعملة واحدة، إنه يؤسس شعورا بالمشاركة الإجتماعية وشعورا لدى الفرد بالذات والمساهمة في عملية بناء المجتمع وتقدم البيئة المحيطة به. ومن جهة أخرى يوفر ممارسة حق العمل الغرض الأصل منه وهو تأمين الإكتفاء الذاتي واشباع الحاجات الضروية والأساسية للعيش الكريم، فإذا كان هذا هو المفهوم من حق العمل فممارسة هذا الحق تتعلق بتأمين نتيجة هذه الممارسة أكثر من مجرد ممارستها. فهل حقيقة تأمنت هذه النتيجة؟
فاليوم يعيش أغلب المواطنين السوريين على دخل قليل لا يكاد يكفي لتأمين الحياة الكريمة المطلوبة في حدها الأدنى. فهل من العدل أن يعمل المواطن السوري الساعات الطويلة ولكن لا تكفيه نتيجة عمله لتأمين حياة كريمة له ولمن يعيل، فمع غياب كل الترتيبات اللازمة لحياة الإنسانية التي أمنتها دول "السوق الإجتماعي" من عناية صحية وتقاعد كريم، فإن ممارسة المواطن السوري لحقه بالعمل أصبحت اليوم أقرب منها للعنة العمل منها لكونها حق العمل، وليس السبب كسل ولبود المواطن السوري ولكنها الأزمة المزمنة التي يعيشها لما يقارب من نصف قرن. فهل يمكن عمل الفرد السوري من الخروج من دائرة الفقر المقدع. فعمله المنهك والمتعب الطويل لا يمكنه من الإنتقال من موقع اليأس إلى موقع أفضل ، فقد وصل الكثير من العاملين في الوطن إلى مرحلة ما يسميه علماء النفس بالعجز المُكتََسَب. فاستمرار الأزمة وديمومتها وعجز المواطن عن مواجهتها وحلها بالعمل الطويل والدؤوب ولدَ لدى العامل شعورا بالإحباط. وطول الممارسة والشقاء أكد قناعات تستقل فيها أوضاعه الحياتية عن مقدار جهده وعمله. وتراكم عند العامة إدراكا خفيا قاتلا بأنه "مهما عمل وجد فإن النتيجة واحدة." فوضعيته المعيشة لا علاقة له بجهده وعمله الشريف.
فهل العمل الذي يعجز عن تأمين الحاجات الأساسية لصاحبه يعتبر عملا إنساني؟ أم أن هذا بالضبط ما يميز الإستغلال الذي يضع الإنسان على حافة العبودية. يدور نقاشا في الدول المتقدمة حول القبول الأخلاقي في المجتمع لبعض المهن "الوضيعة" وغير الإنسانية مثل جمع الفضلات القابلة للإستخدام على مزابل الفلبين أو عربات النقل العام "التاكسي" التي يجرها الإنسان في جنوب شرق آسيا، أو مراكز صناعة المنسوجات المكتظة بساعاتها الطويلة وبظروفها غير الإنسانية. فهل من تضطره الظروف الإقتصادية والإجتماعية للبيئة التي يعيش فيها لهذه الأعمال يمارس حقه بالعمل حقيقة، أم أن هذه الأعمال هي الأقرب للإستغلال والعبودية منها لممارسة حق مقدس للمواطن. وقد عمدت بعض الدول لتحريم مثل هذه المهن ولكن الظروف الإقتصادية لهذه الطبقات المعدمة جعلتها تتراجع عن تطبيق هذه القوانين.
في سورية تتجاوز هذه الأعمال "الإستغلالية" الأمثلة التي ذكرناها والتي تناقشها الدول المتقدمة. فالعمل الإستغلالي هو كل عمل يضع الإنسان في موضع الإستغلال، فلا يمكننا أن نرى مجتمعا دون جامعي القمامة أو من غير منظفي الحمامات. فكون العمل يتعامل مع القذارة لا يعني كونه وضيعا. فالعمل الذي تسعى الإنسانية لمنعه هو الذي يقترب بالعامل من وضع الإستغلال المطلق لوضعه الإقتصادي دون أن يعوضه عن عمله بما يضمن له الحياة الكريمة. فلو نظرنا للائحة الأعمال الإستغلالية تمتد على طبقات واسعة من الناس، فعندما يضطر المدرس لإن يوزع الحليب، أو أن يقود تاكسي حتى منتصف الليل ويعود إلى بيته دون أن يؤمن ما يضمن مستقبله ومستقبل أولاده؛ وعندما لايجد الشرطي دخله الشريف كاف لتأمين ابسط حاجاته المعيشيه، وعندما تعيش أغلب الطبقة العاملة على حد الكفاف، وعندما تتحول الرشوة إلى مصدر أساس للدخل ليسد رمق الإنسان، نستطيع أن نعتبر أن حق الإنسان بالعمل من الحقوق المنتهكة وأن حقه بالعمل أصبح مصدر استغلال يضعه أقرب للعبودية.
فما هي الحقوق الإقتصادية التي على مجتمعاتنا تبنيها؟
إذا لا يعتبر تزيين دساتيرنا بالحقوق ضامنا لتحقيق هذه الحقوق، وإن كان التأكيد على هذه الحقوق في الدستور أمرا أصيلا. والتحول من نظام لأخر لا يضمن أيضا تحقيق حقوق المواطن الإقتصادية. والقيادة السياسية في سورية قررت الإنتقال إلى ما يدعى باقتصاد "السوق الإجتماعي." ولكن المشكلة لن تكون بالقرار السياسي. فالأهم من القرار هو قدرته على أن يتحول إلى واقع مطبق. فالإنتقال من نظام لآخر لا يعني التخلص من سلبيات النظام القديم.
فهناك نقاشا طويلا عن علاقة الديمقراطية بحقوق الإنسان الإقتصادية؛ فالرأسمالية تصر على أن حقوق الإنسان تتحقق بمجرد أن ندع آليات السوق تمارس عملها بحرية، أمال تجربة الإشتراكية في ضمان الحقوق الإقتصادية فلا داع للتذكير بها هنا، فهل حق الإنتخاب يعتبر ضامنا للحقوق الإقتصادية؟ والجواب بالنفي كما تظهره الحالات الغربية، فالرأسمالية هي شريكة الإستغلال، والديمقراطية لم تتمكن من استئصال الوجه الإستغلالي للرأسمالية، فالواضح أن الحكومة الديمقراطية وجدها ليست ضامنا لحماية الحقوق الإقتصادية، فلا الديمقراطية ولا آليات السوق قادرة في الوضعية الغربية على الحماية من الإستغلال.
فلا بد من مفاهيم بعيدة عن آليات السوق يتفق عليها المجتمع ويقر بأنها حقوق "اقتصادية" وهو ضامن لها. فالأمة عليها أن تقرر ما هي الحقوق الإقتصادية في كل حقبة وفي كل طور من أطوار تنميتها. ولاعتبار هذه الحقوق لا بد للمجتمع من آلية مشاركة في صنع القرار السياسي، فالديمقراطية -على معايبها- تبق الضمان الأوحد لتحقيق قضيتين: الأولى أن يصنع المجتمع مجموعة الحقوق التي يبغي ضمانها لأفراده، والثاني: أن يزود هذه الحقوق بآلية تصحيح مناسبة نابعة من الذات، والأهم من كل هذا أن انبثاق هذه الحقوق عن شرعية المجتمع تزودها بسلطة أقوى بكثير من السلطة التي تفرضها الصفة التسلطية للدولة.
ولن تتمكن إية طبقة سياسية من تحديد الحقوق الإقتصادية ما لم تملك قاعدة اجتماعية واسعة. من هنا تأتي أهمية الديمقراطية والمشاركة الشعبية في صنع القرار، فالديمقراطية لا تضمن الحقوق الإقتصادية، ولكنها شرطا أساسا لتأمين الدعم الضروري لأي حقوق اقتصادية. لقد اعلنت الدولة النقلة من الإقتصاد الإشتراكي الموجه لما يطلق عليه "السوق الإجتماعي" رغم أننا لا نجد تعريفا واحدا لهذا الإقتصاد المنشود ولكننا نستطيع أن نخمن مقدار مشاركة المجتمع ومؤسساته في صناعة هذا القرار.
نشرت في اليوصلة
العدد 10 شباط 2007
تنص المادة 36 من الدستور السوري على أن "العمل حق لكل مواطن".
1. العمل حق لكل مواطن وواجب عليه وتعمل الدولة على توفيره لجميع المواطنين.
2. يحق لكل مواطن ان يتقاضى أجره حسب نوعية العمل ومردوده وعلى الدولة أن تكفل ذلك.
3. تحدد الدولة عدد ساعات العمل وتكفل الضمان الاجتماعي للعاملين وتنظم لهم حق الراحة والاجازة والتعويضات والمكافآت

No comments: