Wednesday, December 14, 2022

كذبة كبيرة استطاعت أوربا أن تقنع العالم أن مهاجريها أتوا "سباحة".

في الثمانينات كان لدي صديقتين اختين من أبوين من المغرب، ولدتا في فرنسا، يسكن أهلهما بالمساكن الشعبية الفقيرة HLM  الغيتو العمالي. كانتا تدرسان القانون لتصبحا محاميتين.  وكانتا الأجنبيتين الوحيدتين في كلية الحقوق.  وكلما قدمتهما لصديق فرنسي ترى مباشرة ردة الفعل السلبة، والجيد منهم من يثير تعجبه وجودهما في كلية الحقوق. فهل منكم من يعلم هذا الشعور عندما تجد نفسك أن "وطنك" ينبذك. نحن في سوريا نجد شعورا جزئيا من هذا عندما نتعامل مغ نصيري من جماعة النظام، فيشعرك أنه لا وجود لك في هذا البلد.  اضرب هذه الشعور السلبي بعشرة اضاق مضاعفة لتدرك شعور المهاجر أو ابنه في اوربا.

فمن لم يغترب لم يعلم قيمة نجاح أبناء المغتربين ولا سيما المسلمين منهم في أوربا، فما نراه اليوم من توفيق لهؤلاء الأبطال لم يأتِ من فراغ، بل من تضحيات آبائهم وسباحتهم ضد تيار مجتمع أُحادي الثقافة. هذه الثقافة تكيدُ العداء و العنصرية وكراهية للمهاجر ولا سيما المسلم منهم . هذا العداء "عينّي" لا يمكن التخلص منه. برغم كل الجهود وحسن نية الطيبين من أهل البلد هذا العداء كان هو المصيطر.  ولا يمكن أن يهرب منه أبناء المهاجرين.  فهم يرونه في كل مكان من المدرسة إلى السوق إلى الجامعة.  فإن جاهدوا للنجاح يستفزهم أهل البلد ويحبطهم، وإن نجحوا يستكثر اهل البلد هذا النجاح عليهم. 

من أين أتى المهاجرين؟

كذبة كبيرة استطاعت أوربا أن تقنع العالم أن مهاجريها أتوا "سباحة".  بعد الاستقلال السياسي الظاهري لأفريقيا، كانت أوربا ولا سيما فرنسا في حاجة مستعمراتها ولا سيما حاجة يد العاملة الرخيصة في افريقيا.  فكانت ترسل فرق معها طبيب صحة إلى القرى الأفريقية وتعرض على الناس الهجرة، فمن كان عنده الرغبة ووجد الفريق انه مناسب ووجد الطبيب أن صحته جيدة للعمل فمنح حق العمل (لاحق الهجرة) عندما وصل إلى فرنسا، أخذ موقعه على خط الإنتاج.  في ذلك الوقت لم تبذل فرنسا أي جهد لتأهيلهم حتى لتعليمهم الفرنسية حقيقة.  أُسكن هؤلاء العمال في تجمعات سُميت فيما بعد "فويه سوناكاترا"   

Société nationale de construction de logement de travailleurs

 التي تأسست عام 1956 من قبل وزارة الداخلية الفرنسية.  رغم أن هذه التجمعات السكنية رخيصة بسب المساعدة الحكومية، ولكنها أبعد ما يكون عن العيش الفعال لمساعدة العمال على التأقلم.  فأحسن ما تراه في الغرفة أنها تتألف من سرير ومغسلة وكرسي وطاولة، إن مددت ذراعيك إلى أقصاها فستلمس الحائطين، وكل جناح (عدد من الغرف) يشترك بحمامات جميلة نظيفة وتوفر الماء الساخن للجميع.  ويشارك الجناح بمطبخ وبراد ومكان للطعام. 

هكذا تدور حياة هؤلاء المهاجرين في المعمل والغرفة بانتظار الصيف ليملأ المهاجر سيارته بما يحتاج أهله في البلاد ويذهب لهم ليمضي عطلة الصيف معهم. كثير من هؤلاء المهاجرين الأوائل لم يتأقلموا بداية مع المجتمع الفرنسي ولم يتطوروا مع مجتمعاتهم الأم.  ومن يهاجر كما هاجرتُ يعلم أن المهاجرين لا يعلموا أهلهم بمشقاتهم وبلاوي الحياة في الغرب. وأعتقد أن هذه القضية هي التي ساهمت في رسم الصورة الخيالية في مخيلة الناس في الجنوب عن الحياة "المخملية" التي يعيشها ابناءهم في الشمال.  مع الوقت أنشئت تجمعات مشابهة، ولكن على شكل شقق يمكن للعائلة أن تسكنها سميت HLM هي أقرب لصناديق اسمنتية من أي شي آخر.

علينا الاعتراف بأن هذه الأوضاع تحسنت عبر الوقت بالنسبة للمهاجر، ولكن الجهد المبذول في هذه البلاد لاستيعاب المهاجر ثقافيا وتأمين حضور ثقافي له كان محدودا ولم تستطع فرنسا أن تدرك الفرق الثقافي ولاسيما مع المسلمين إلا مع بداية القرن الواحد والعشرين.  وحتى هذا الإدراك لثقافة المهاجر لم تكن حيادية، فأرادت أن ترى هذه الثقافة من جهة نظر سلطة تدخلية في حياة المهاجر دون نظير لها للتدخلات في حياة غير المهاجر.  فما زالت فرنسا متأخرة عن كثير من الدول الأوربية الأخرى باعتبار المهاجرين كثروة وطنية، فعوضا عن تحييدهم تحتاج أن تقر بأنهم عماد للصناعة والتقدم الفرنسي.  أما معاركها التي تفتحها معهم من فترة لأخرى فلن تفيدها شيئا. 

وقد استطاعت فرنسا أن تخدع نفسها باعتقادها أن معركتها مع مترين من القماش يُدعى "الحجاب" ولكن في الحقيقة هذا الوهم تعتبر خط الدفاع الفرنسي الأخير، فالثقافة الفرنسية لم يبق لها من معابد إلا المنشأة الاقتصادية الفرنسية (الشركات) ومن هنا فإن هذه الشركات تخترق يوميا بجيل جديد من الأبناء المهاجرين نراهم في كثير من مواقع الإنتاج ويتزايدون بسرعة في مواقع القرار الاقتصادي.  ومن الواضح أن فرنسا كعادتها تريد أن تخفي الشمس بغربال، فحربها تهدف ان لا يأتي يوما ترى فيه نساء المهاجرين في مواقع قراراتها بحجاباتهن.  فتتناسى أنها هي التي دعت آباءهم وأجدادهم لناء الاقتصاد الفرنسي، فتتساهل معهم عندما كانوا نساء ورجالا يعملوا بتنظيف المعامل، أما إدارتها وقيادتها فلا.  فهذه لن تكون إلا محاولة لتأخير المحتوم.  

اليوم فريق فرنسا والمغرب سيلتقيان في تصفيات كاس للعالم.  كسوري أمريكي مسلم أعلم الصعوبات والجهود التي بذلها دمبلي أو حكيمي ليصلا إلى ما وصلا له. وانتصار أي منهما هو انتصار لنا أجمعين. 

 



محي الدين قصار

شيكاغوا 12/14/2022

نصف ساعة قبل المباراة 

No comments: