من يعيش في العاصمة يعرف مهنة أعتقد انها ما
زالت تمارس بطريقة أو أخرى ويطلق على ممارسها اسم "العرضحلجي." والكلمة مأخوذة من تركيبة "عرض الحال" فمن يأتي إلى العاصمة باحثا عن القيام بإجراء ما
سواء الحصول على هوية أو جواز سفر أو معاملة أرث أو ما هنالك مما صغر أو كبر من
قضايا فإنه يذهب إلى العرضحلجي ليقدم له ما يحتاج من نصيحة ومعرفة ويملئ له ما
يحتاج من أوراق وخلافها.
خلال اقامتي في تركيا لما يزيد عن شهر الآن
بقدرة قادر وجدت نفسي اصبحت "عرضحلجي الثورة" وقد ألمح البسمة ترتسم على شفتي القارئ
العزيز، ولكن هذه حقيقة، فكلما التقي بمجموعة جديدة من الثوار تسمع بِهموم
جديدة، فذلك يبحث عن علاج لنفسه وآخر يبحث
عن علاج لغيره وثالث يبحث عن مزيد من المال لمقاتلي قريته، ورابع يبحث عن اعتراف بتنسيقيته
أو اتحاده، وهذا يريد سلاح من بلادستان، وآخرون أتوا لأمر ما ويحاولوا أن يتذكروه
ليبرروا لأنفسهم عدم عودتهم. وكل هؤلاء
تجمعهم حسن النية وضياعهم في أروقة "العاصمة"
ولكن العاصمة هنا ما هي إلا
"المجلس الوطني" وبعض المؤسسات
الإغاثية السورية المتفرقة. وهذه مؤسسات
مازالت في عمر الطفولة وتدار بطريقة غير ناضجة بغض النظر عن نوايا أصحابها وقياديها، وقد يكون هناك محاولات فيها لتحديد طرق ثابتة
للعمل وسياسات واضحة ولكنها لم تصل بعد لمرحلة النضج الأولي، فاحدى المجموعات ذهبت تطالب بمساعدة مالية من
المجلس لتسليح اعضائها، فأحيلت إلى
المسؤول المالي، والأستاذ المسؤول رفض تقديم المال، فما كان من الشباب إلا أن هددوا الأستاذ جسديا،
وقيل أنهم رفعوه من النافذة على ذمة الراوي، فما كان منه إلا أن دفع لهم ما فيه
النصيب. وهنا لا ابرر تصرف الشباب ولا أدين
رفض الأستاذ الأولي، فالأستاذ له الحق بل
المسؤولية أن يتأكد أن المال يذهب لمستحقيه الحقيقيين، والشباب لهم الحق بالمطالبة، ولكن غياب سياسة واضحة تُقنع بنضجها الطالب أن
يتبع تطبيقها خلق وضع مثل هذا، والأسوء في
هذا المثل أن التهديد نجح في تأمين المال لهذه المجموعة، مما أكد للجميع أن القضية فوضوية وأنه إما أن
تملك "واسطة" أو أن تملك عضلات.
كان الحديث بين الشباب عن قضية بسيطة وهو
تغيير الضمادات على جراحاتهم، فاستغربت
الأمر ونحن لا نبعد سوى كيلومتر واحد عن مكاتب ومستودع كبرى المنظمات السورية
الطبية، فأخذت أحد الجرحى وذهبنا إلى
المكتب، ومما لا شك فيه أن الاخوة المسؤولين
عن المنظمة من أكثر الأخوة إخلاصا وإني لأحسبهم كذلك، ولكن مالعمل إذا كان
المستودع خالِ من الشاش الطبي الضروري لتغيير الجروح. طبعا هناك الكثير من الخدمات الأخرى التي
تقدمها المنظمة ولكن لا يعرف الشباب بها. ذلك مثالا آخر على غياب النضج الضروري في
هذه المؤسسات، وللعدل علينا أن نتذكر ان النضج المؤسساتي يحتاج لعامل الوقت
لمؤسسات مازالت حديثة العهد.
و مثل هذه الأمثلة والحاجيات مبررة جدا،
ولكنني التقيت بأحد المعارضين (مابينزل من على الشاشة) وجرى حوار ودي بيننا، وكانت
خلاصة طلباته مريحة بصراحتها ومباشرتها: "هات
مصاري وتريك الباقي علينا." قلت له
يا باشا على سلامتك مثلك لاتحتاج عرضحلجي مثلي.
والأمثلة كثيرة، وفجأة تجد نفسك "عرضحلجي" تحاول المساعدة قدر الإمكان وكلما حاولت
المساعدة كلما أتاك المزيد من الطلبات التي لا تنتهي، واليوم بعد مرور أكثر من شهر
على وصولي إلى تركيا مازلت لم أجد الوقت لزيارة مكتب المجلس الوطني في
استنبول، بل من الواضح انهم لا يريدون أن
يزورهم أحد، فأحسب أن شبكة علاقاتي من أوسع
الشبكات ومع ذلك تجد أن مواعيد تواجد اهل المجلس في مكاتبهم من أكثر المواعيد
سرية، وكلما تتكلم مع أحد منهم يُرسل
الشباب لبلد من البلدان فيوما هم في مصر وآخر في الدوحة، بل الأخبار تؤكد انهم يتعمدون تغيير مدن
إجتماعات المجلس لغرض في نفسهم، بل أن اتصلت بأحدهم سائلا عن موضوع معين لا يجيبك
إلا بعد أن يكون الموضوع قد أنقضى أجله، بل
أحسب أنه من الأسهل على الإنسان أن يلتقي بأوغلوا على أن يلتقي بواحد من
المجلس.
وهكذا بطريقة أو أخرى وجدت نفسي أتحول
تدريجيا إلى عرضحلجي الثورة. ، وأنا سعيد بقدرتي على الأقل الاستماع للأخوة
وحاجاتهم، فهذا يعسك ثقتهم بالفقير لله
وأنا فخور بهذه الثقة، ولكن المشكلة الكبرى مع هذه المهنة أن صاحبها لا
يعني أنه يستطيع أن يحل المشكلة، وإن تمكننا من حل العديد من المشاكل ولكن يبق كل
ما يملك العرضحلجي هو أن يشير إلى الحل. فهذه مهنة لا أتمناها لصديق.